وتحته سر عجيب دال على كمال معرفة المسيح بربه وتعظيمه له، فإن هذا السؤال كان عقيب سؤال قومه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} [المائدة: 112]، فخوفهم بالله وأعلمهم أن هذا مما لا يليق أن يسأل عنه، وأن الإيمان يرده، فلما ألحوا في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يجابوا إلى ما سألوا بدأ في السؤال باسم (اللهم) الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المثنى الحامد الذاكر لأسماء ربه، المثنى عليه بها. وأن المقصود من هذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يثنى على الرب بذلك ويمجده به ويذكر آلاءه، ويظهر شواهد قدرته وربوبيته، ويكون برهاناً على صدق رسوله فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يحسن معه الطلب ويكون كالعذر فيه فأتى بالاسمين اسم الله الذي يثنى عليه به، واسم الرب الذي يدعي ويسأل به لما كان المقام مقام الأمرين.
فتأمل هذا السر العجيب، ولا ينب عنه فهمك فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه .. وله الحمد. وأما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب فقد ذكرنا سره في الوجه الذي قبل هذا .. فالعهد به قريب.
فصل: السلام في آخر الصلاة وتعريفه
وأما السؤال الثامن والعشرون: فقد تضمن سؤالين: أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة؟ والثاني لم كان معرفاً؟
والجواب: أما اختتام الصلاة به فإنه قد جعل الله لكل عبادة تحليلاً منها، فالتحليل من الحج بالرمي وما بعده، وكذلك التحلل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجعل السلام تحليلاً من الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ، تحريمها هنا هو بابها الذي يدخل منه إليها، وتحليلها بابها الذي يخرج به منها.
فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم باب الخروج لحكمة بديعة بالغة يفهمها من عقل عن الله وألزم نفسه بتأمل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراج حكمه وأسراره وبدائعه، وتغرب عن عالم العادة والألف، فلم يقنع بمجرد الأشباح، حتى يعلم ما يقوم بها من الأرواح، فإن الله لم يشرع شيئاً سدى، ولا خلواً من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحكم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما وراءه، فيسجد القلب خضوعاً وإذعاناً.
فنقول: -وبالله التوفيق- لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل، وقطع جميل العلائق وتطهر، وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله ومناجاته. شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال. فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول الله أكبر. فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور ب (من) ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه، ولا تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث.
فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه. والمقصود به باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه. فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيي منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفياً لمعنى (الله أكبر)، ولا مؤديا لحق هذا اللفظ، ولا أتى الببت من بابه، بل الباب عنه مسدود.
وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه. وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة، وكشف الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية، وقد تبعث قلبك في كل واد، فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك، فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب.
والمقصود: أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه: (الله أكبر) وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضى حق (الله أكبر)، وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات، فهذا الباب الذي يدخل منه المصلي وهو التحريم.
وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى، فيكون مفتتحاً لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتماً لها باسمه فيكون ذاكراً لاسم ربه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه، وآخرها باسمه، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه مع ما في اسم السلام من الخاصية، والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله، فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره، بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب وجاءه الشيطان بمصائده وجنده، فهو متعرض لأنواع البلايا والمحن، فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى. وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.
فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره، لكان كافياً، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان .. والحمد في ذلك لله وحده، فكما أن المنعم به هو الله وحده. فالمحمود عليه هو الله وحده.
وقد عرف بهذا جواب السؤال الثاني وهو مجيء السلام هنا معرفاً ليكون دالاً على اسمه السلام. ولكن هذا آخر الكلام في مسألة: (سلام عليكم) فلولا قصد الاختصار لجاءت مجلداً ضخماً، هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله، فإنها مملوءة منها فمن أرادها، فليأخذها من هناك ..
والحمد لله رب العالمين.