ويوضح ذلك أيضا: أنه لو ذبحها في غير محل الذبح ناسيا أو جاهلا فلا مؤاخذة عليه ولا جناح، ولا يلزم من انتفائهما عنه حل ذبيحته، فذبيحته حرام لفقد شرطها الوجودي، وهو إنهار الدم في محل الذبح.
فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها: أن قوما قالوا للنبي صلي الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا عليه أنتم وكلوه)) قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (98).
قلنا: الجواب: أننا نقول بمقتضى هذا الحديث، وأنه لو أتانا من تحل ذكاته من مسلم أو كتابي بلحم حل لنا أكله وإن كنا لا ندري هل ذكر اسم الله عليه أو لا، لأن الأصل في التصرفات الواقعة من أهلها الصحة حتى يقوم دليل الفساد، ولسنا مخاطبين بفعل غيرنا، وإنما نخاطب بفعلنا نحن، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حيث قال: ((سموا عليه أنتم وكلوه)) كأنه يقول: أنتم مخاطبون بالتسمية عند فعلكم وهو الأكل، فسموا عليه، وأما الذبح والتسمية عليه فمخاطب به غيركم، فعليكم ما حملتم وعليهم ما حملوا، وليس يعني أن تسميتكم هذه تغني عن التسمية على الذبح، وذلك لأن الذبح قد فات.
وليس في الحديث دليل على سقوط التسمية بالجهل، ولا على أنها ليست بشرط لحل الذبيحة؛ لأنه ليس فيه أنهم تركوا التسمية فأحل لهم النبي صلى الله عليه وسلم اللحم، وإنما فيه أنهم لا يدرون أذكروا اسم الله عليه أم لا، والأصل أن الفعل وقع على الصحة، بل قد يقال: إن في الحديث دليلا على أن التسمية شرط لحل الذبيحة، وأنه لابد منها، وإلا لما أشكل حكم هذا اللحم على الصحابة حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ثم لو كانت التسمية غير شرط أو كانت تسقط في مثل هذه الحال لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: وما يضركم إذا تركوها أو نحو هذا الكلام؛ لأنه أبين وابلغ في إظهار الحكم وسقوط التسمية، ولم يرشدهم إلى ما ينبغي أن يعتنوا به وهو التسمية على فعلهم.
فإن قيل: ما الجواب عن الآثار التي احتج بها من لا يرى أن التسمية شرط لحل الذبيحة أو أنها تسقط بالنسيان؟
قلنا: الجواب: أن هذه الآثار لا تصح مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي موقوفة على بعض الصحابة على ما في أسانيدها من مقال، فلا يعارض بها ظاهر الكتاب والسنة.
فإن قيل: ما الجواب عما قاله ابن جرير رحمه الله من أن القول بتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه نسيانا خارج عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، يعني أن الإجماع على تحليل ما لم يذكر اسم الله عليه نسيانا؛ فالقول بتحريمه خارج عن الإجماع؟
قلنا: الجواب عليه: أنه مدفوع بما نقله غيره من الخلاف فيه، فقد قال شيخ الإسلام: إن القول بالتحريم قول غير واحد من السلف، وقد قال ابن كثير: إنه مروي عن ابن عمر ونافع مولاه وعامر الشعبي ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك ورواية عن أحمد ابن حنبل، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن على الطائي من متأخري الشافعية في كتابه ((الأربعين))، قال ابن الجوزي: وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي. قلت: واختاره ابن حزم وذكر أدلته، وأجاب عن الآثار المروية في الحل.
فإن قيل: إن تحريمها إضاعة للمال، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.
فالجواب: أن الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ليست بمال؛ لأنها ميتة حيث لم تذك ذكاة شرعية لفقد شرط من شروط الذكاة، فليس تحريمها بإضاعة للمال، وإنما هو امتثال وطاعة لله تعالى في قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام:121) على أن تحريم أكلها لا يمنع من الانتفاع بشحمها وودكها على وجه لا يتعدى كطلي السفن وإيقاد المصابيح ونحو ذلك، فعن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: مر النبي صلي الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: ((لو أخذتم إهابها)) فقالوا: إنها ميتة. قال: ((يطهرها الماء والقرظ)) أخرجه أبو داود النسائي (99)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)).
¥