ثم إن هذا الإيراد الذي ذكرته أخي _ بارك الله فيك _ وارد في حق جميع الصفات الأخرى فحينما نقول مثلا إن لله يدين فينبغي _ على قولك _ أن نقول عند إثباتها له يدان حقيقيتان وليس المراد بهما القدرة أو النعمة ... إلى غير ذلك من القيود ومعلوم أن ذلك لا حاجة له بل يكفي أن تثبت لله يدين ومعلوم عقيدة أهل السنة والجماعة في المراد بهما فمن أورد ما سبق ذكره من تأويل فعندئذ يرد عليه بالتفصيل، وكذلك حينما نثبت صفة الاستواء لا حاجة إلى أن نقول استواء لا مماسة فيه .... ونحوها فالمقصود أنه في مجال تقعيد مذهب أهل السنة وعقيدتهم يكتفى بما نقل وورد عن السلف ولا نتجاوز ألفاظهم ولا نزيد ولا نقيد إلا عند الحاجة لذلك في موضع الرد أو إذا ظن المرء أن السامع قد يفهم فهماً خاطئاً أو كان اللفظ يوهم مشابهة قول أهل البدع كما حدث في إنكار أحمد على الوقفية واللفظية فيبين ذلك بقدر الحاجة ولا يتعدى بها الحاجة فالألفاظ في هذا الباب دقيقة ومزلة وأنت تعلم يا أخي كم وقع للأئمة من محن بسبب لفظة وليس البخاري _ رحمه الله _ عنا ببعيد حينما امتحن بسبب اللفظ.
فإن أورد علينا الخصم لفظةً محدثةً أو سؤالاً محدثاً فموقفنا هو أن ننظر فيه: فأما اللفظ فنرده؛ لأنه محدث وأما المعنى فنفصل فيه فنقبل ما تضمنه من حق ونرد ما تضمنه من باطل كما قرر ذلك أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية وغيرها كما هو الحال في الجهة والحيز ونحوهما ..
وهذا كلام لابن تيمية رحمه الله حول ما ذكرته من أسئلة وإيرادات، قال رحمه الله: (قلت: ولو فرض أن بعض أهل الإثبات أطلق القول بأن القرآن أو غيره من الصفات بعضه فهذا إما أن ينكر لأن يقال الصفة القائمة بالموصوف كالعلم والكلام لا يقال هي بعضه أو لأن الرب تبارك وتعالى لا يقال أن له بعضا كما للأجسام بعض فإن كان الإنكار لأجل الأول فأهل الكلام متنازعون في صفات الجسم هل يقال أنها بعض الجسم أو يقال هي غيره أو لا يقال هي غيره ... ) الفتاوى الكبرى (6/ 397)
- قولك أخي: (فـ"القيود والتحفظات" إنما نذكرها في ألفاظ هي موضع الإيهام والالتباش (أى: "مفردات" و "متشابهات"). أما "المحكمات" و"المشهورات"، فلا داعي لوضع القيود لها ولا تحفظات - إلا بقصد التبحّر وزيادة البيان)
سبق بيان أن الاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة وعن السلف يوقف عندها ويكتفى بما ذكروه إلا عند الحاجة فالأصل هو إطلاقها كما وردت وعند الرد أو مظنة الالتباس يشرح اللفظ ويبين المراد منه.
- قولك أخي: (فإن البخاري إنما أطلق القول بأن "القرآن صفة من صفات الله" في معرض الرد على من لا يسمي الله وصفاته "شيئًا".) من أين لك هذا؟ بل هو يقرر عقيدة ولا يرد وإلا فسنقول إن كل كتب العقيدة سواء التأصيلية أو الردود كلها تكون ردوداً على هذا المعنى ومعلوم الفرق بين الأمرين ثم لو سلِّم أنه يرد على من قال إن الله لا يسمى شيئاً ولا صفاته تبارك وتعالى فإن الاطلاق يكون حول المسألة المردود فيها، ومسألة أن (القرآن صفة الله) مسألة أخرى فهو ذكرها كأمر مسلم به بينه وبين من يرد عليه (هذا على التسليم بأنه في مقام الرد) فهو لا يرد على من قال القرآن ليس صفة مثلاً أو على من قال القرآن مخلوق، وما ذكرتُه الآن أيضاً هو جواب لقولك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (هو أيضا في معرض الرد على من أنكر التفاضل في القرآن، وليس في معرض "التأصيل والتقعيد لمنهج أهل السنة والجماعة" مع كثرة ما كتبه في التأصيل والتقعيد) فشيخ الإسلام يتكلم عن مسألة التفاضل فالتجوز في الألفاظ إنما يكون في هذه المسألة لا في مسألة أخرى وهي أن القرآن صفة الله.
- قولك أخي: (وهو عندما أقر بأن القرآن "من صفات الله" - بناء على كلام أبي عبد الله بن الدراج المنقود بعضه - لم يقر به إقرارا قويا مطلقا من غير تقييد أو بيان) ما هو مقياس الإقرار القوي؟ إذا كان قد ذكر ما نقله أبو عبد الله المرابط من الإجماع في المسألة ولم يتعقبه ثم هو يقول ابتداءً: (مذهب أهل السنة أن القرآن من صفات الله لا من مخلوقات الله) مجموع الفتاوى (17/ 76) فما هو الإقرار إذاً؟
- قولك أخي: (فهو رحمه الله عندما قرر المبادئ يقول بأن القول المعروف عند أهل السنة هو "أن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق" ولم يستعمل عبارة "إن القرآن صفة الله" مع أشددها استلزاما لعدم المخلوقية (فإن التعبير عن "القرآن" بأنه "صفة الخالق" أدل إلى أنه "غير مخلوق" من مجرد التعبير عنه بأنه "كلام الخالق"). ومع ذلك، لم يستعمل شيخ الإسلام هذه العبارة في مثل هذا المقام التأصيلي) إنما لم يستخدم ابن تيمية رحمه الله ما ذكرته لأن التعبير بـ (القرآن كلام الله وهو غير مخلوق) لفظ متواتر عن السلف وأجمعوا عليه وأطبقت ألفاظهم عليه فهو اٌقوى من جهة الثبوت من (صفة الله) بلا شك.
.....
قال شيخ السنة الإمام الحافظ أبو نصر السجزي في رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 105): (لا خلاف بين المسلمين أجمع أن القرآن كلام الله عز وجل وأنه الكتاب المنزل بلسان عربي مبين الذي له أول وآخر وهو ذو أجزاء وأبعاض وأنه شيء ينقري ويتأتى أداؤه وتلاوته ثم اختلفوا بعد هذه الجملة فقال اهل الحق: هو غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفات ذاته وهو المتكلم به على الحقيقة وهو موصوف بالكلام فيما لم يزل ... )
وأخيراً أخي الكريم نضال وفقه الله:
فهذه المسألة الأمر فيها واسع من جهة الإطلاق إذا اعتقد المرء أن القرآن كلام الله وهو صفة من صفاته وهو غير مخلوق وإنما المقصود الإجابة على سؤال الأخت حول ورود هذا الاطلاق في اطلاقات السلف والله أعلم