تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

واضح؛ إذ ليس المراد بذلك مجرد كتابته أنه يفعل، وهو كتابة التقدير، كما قد ثبت في الصحيح: (أنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)؛ فإنه قال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، ولو أريد كتابة التقدير لكان قد كتب على نفسه الغضب، كما كتب على نفسه الرحمة؛ إذ كان المراد مجرد الخبر عما سيكون، ولكان قد حرم على نفسه كل ما لم يفعله من الإحسان كما حرم الظلم.

وكما أن الفرق ثابت في حقنا بين قوله: {كُتِبَ عليكم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وبين قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]. وقوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. وقوله: (فيبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد). فهكذا الفرق ـ أيضًا ـ ثابت في حق اللّه.

ونظير ما ذكره من كتابته على نفسه كما تقدم قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا علينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يامعاذ، أتدري ماحق اللّه على عباده؟) قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال: (حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ماحق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك؟) قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: (حقهم عليه ألا يعذبهم)، ومنه قوله في غير حديث: (كان حقًا على الله أن يفعل به كذا). فهذا الحق الذي عليه هو أحقه على نفسه بقوله.

ونظير تحريمه على نفسه وإيجابه على نفسه ما أخبر به من قسمه ليفعلن وكلمته السابقة، كقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} [يونس: 19]، وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [ص: 85]،و {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهمْ} [الأعراف: 6]، ونحو ذلك من صِيَغ القسم المتضمنة معنى الإيجاب والمعني، بخلاف القسم المتضمن للخبر المحض.

ولهذا قال الفقهاء: اليمين إما أن توجب حقًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا. وإذا كان معقولا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا كقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، مع أن العبد له آمر وناهٍ فوقه، والرب الذي ليس فوقه أحد لأن يتصور أن يكون هو الآمر الكاتب على نفسه الرحمة، والناهي المحرم على نفسه الظلم أوليوأحري، وكتابته على نفسه ذلك تستلزم إرادته لذلك ومحبته له ورضاه بذلك، وتحريمه الظلم على نفسه يستلزم بغضه لذلك وكراهته له، وإرادته ومحبته للفعل توجب وقوعه منه، وبغضه له وكراهته لأن يفعله يمنع وقوعه منه. فأما ما يحبه ويبغضه من أفعال عباده فذلك نوع آخر، ففرق بين فعله هو وبين ماهو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ماهو ظلم منه وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو الإنسان هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان هي بالنسبة إليه تكون سرقة وزنا وصلاة وصوما، واللّه تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به لا للخالق الذي خلقها وجعلها صفات، واللّه - تعالى - خلق كل صانع وصنعته كما جاء ذلك في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير