تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على حمى المدينة أن تنقل إلى مَهيَعَة وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه؟ فيه للناس قولان: إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض، بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما، كبرغوث وحفص الفرد، لكن إن قيل: هو بوجود مثله من غير انتقال عينه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه، فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني.

القول الثاني: أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسي والخضر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (أن الخضر قال لموسي ـ لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر ـ فقال: يا موسي، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر). ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منهشيء بتعلم العباد، وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر.

ومن هذا الباب كون العلم يورث، كقوله: (العلماء ورثة الأنبياء) ومنه قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ومثل هذه العبارة من النقص، ونحوه تستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه، وقال: نَزَفْتَنِي يا أعمى! وإنْزَاف القليب، ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقي فيه شيء. ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يَزُلْ علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].

ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج ـ كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته. ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات، بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفًا، ومما يقوي هذا المعني أن الإنسان، وإن كان علمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخري. وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تَكِلُّ النفس وتعي، حتى لا يقوي على استحضاره إلا بعد مدة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول: كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو ـ سبحانه ـ منزهًا عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم.

وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 255]، إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر، أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسمًا ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك؛ فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبه الرؤية بالرؤية، وهي، وإن كانت

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير