أما بعد: فهذا كتاب جديد نقدمه إلى القراء في موضوع جديد وقديم , جديد حيث أنه يبحث عن التصوف والصوفية , وقديم لأنه من نفس السلسلة التي كتبنا عنها وعاهدنا الله عز وجل أن نكتب ونتحدث عنها , ونتكلم فيها , ونزنها بميزان الكتاب والسنة , ونضعها في معيار النقد والتجزئة والتحليل ما دمنا أحياء نستطيع الكتابة والخطابة , وما دام في أنا ملنا قدرة في إمساك القلم , وفي اللسان رمق للتفوه والتكلم , لنؤيد الحق وندعمه , ونعلي كلمته ونرفع علمه , ولنبطل الباطل ونرد عليه , ولندحض شبهاته ونفند مزاعمه.
وإننا كنا نقصد أول ما بدأنا في الكتابة عن التصوف أن نقدم دراستنا فيه بصورة كتاب متوسط الحجم لا يزيد على ثلاثمائة صفحة , ويشتمل على تاريخ التصوف , بدايته , منشأه ومولده , مصادره وتعاليمه , عقائده ونظامه , سلاسله وزعمائه وقادته , ولكننا رأينا بعد المضي في الكتابة أن الأمر يتطلب أكثر من كتاب , وعلى الأقل كتابين.
الأول يشتمل على نشأة التصوف ومصادره , وقلّ من تطرق إليها بتفصيل , وكل الكتاب الذين بحثوا التصوف مروا عليها كعابر سبيل مع أن أهمية المصادر والمآخذ لطائفة وجماعة لا تقل عن أهمية تلك الجماعة وأفكارها , بل قد تزيد عليها بفارق كبير حيث إن المصادر والمآخذ كثيرا ما تحسم النزاع في معتقدات وعقائد , وتجعل تلك المعتقدات والعقائد تابعة لتلك المصادر.
وعلى هذا فقد فصلنا القول في ذلك , في كتاب مستقل نضعه اليوم بين أيدي الباحثين والقراء راجين أن ينال رضاهم , ولعلنا سددنا بذلك ثغرة كانت في احتياج لأن تسد ولو أنها تتطلب المزيد , كما أننا نظن أننا في بحثنا عن مصادر التصوف استطعنا أن نضع النقاط على الحروف , وخاصة بمقارنة النصوص والعبارات عند الأخذ بالنصوص والعبارات عند المأخوذ عنه , ومقارنة المقتبس بالمقتبس منه , من الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها لدى الأطراف المعنية كلها , وخاصة في الباب الثالث عن التصوف والتشيع.
ومع إعترافنا بأننا قد سُبقنا إلى هذا البحث من قبل بعض الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع سيجد القارئ ويلاحظ الباحث أننا أضفنا إليه أشياء واستدركنا عليهم أشياء كثيرة في مختصرنا هذا لم يتطرق واحد منهم إليها , مع المقارنة الواضحة , والمشابهة الصريحة , والموافقات الجليلة , والنصوص الكثيرة من كلا الطرفين بدون تصنع وتكلف واستنتاج بعيد واستشهاد شارد غريب , وأعرضنا عن الأشياء التي كان يمكن إيداعها وإيرادها في هذا المبحث , ولكن بالكلفة والإستنباط فاخترنا ما لا يسع أحد إنكاره.
فنحن إستدركنا على السابقين مباحث هي أكثر أهمية وأكبر وزنا وأعظم شأنا مما اشتركنا في إيرادها , ولم يذكروها البتة , من إشتراك الشيعة والصوفية في إجراء النبوة بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه , ونزول الوحي , وإتيان الملائكة , وتكليم الله إياهم , وعدم خلو الأرض من شخص به ثبات الأرض ووجودها , وعدم قبول العبادة بدونه , وتفضيل الوصي على النبي و ونسخ الشريعة , ورفع التكاليف , وإباحة المحظورات وإتيان المنكرات وغيرها من المواضيع الهامة العديدة , فالحمد لله على ذلك.
وكذلك يجد القارئ في الباب الثاني من هذا الكتاب عند بحثنا عن المسيحية باعتبارها أحد المصادر الهامة للتصوف أننا قد انفردنا بإيراد نصوص مسيحية أصلية لمقارنتها بالنصوص الصوفية شهادة على الآخذ والمأخوذ عنه.
وقد إخترنا في هذا المبحث مسلكا ذا أبعاد ثلاثة:
أولا: لا نكتفي بإيراد النص الصوفي بل نورد معه النص الذي يشابهه من الديانات الأخرى على خلاف ما تعوده الكتّاب الثقة منهم بأن القارئ والباحث يعرف ذلك , فليس بضروري أن يكون القارئ متخصصا في هذا الموضوع حتى يكون له إلمامة بنصوص تلك الديانات.
ثانيا: أوردنا تأييدات من قبل الباحثين والكتاب من المسلمين والمستشرقين الذين إشتغلوا في دراسة التصوف بإعتبارها شهادات خارجية بعد الشهادات الداخلية الناتجة من مقارنة النصوص نفسها.
وثالثا: جمع النصوص من المتصوفة المتقدمين والمتأخرين المشهورين بالأعتدال والموثوق لدى العامة , وكذلك نصوص الآخرين من المتصوفة غير المعتدلين وغير الغلاة أيضا.
¥