هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا , حيث شرع مع الشارع , وفتح للاختلاف باباً , ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك).
وبعد هذه التوطئة المختصرة والمهمة أيضا ننتقل إلى المقصود والمطلوب , وهو معرفة التصوف والصوفية , وجعل الشرع حاكما عليهما , وعرض آرائهما وأفكارهما عليه. وبالله التوفيق.
الفصل الثاني
أصْلُ التّصَوّفِ وَاشْتقاقهِ
قبل أن بحث في التصوف ونشأته وتاريخه نريد أن نذكر أصل اشتقاقه, من أين اشتق؟ وكيف كان اشتقاقه؟ واختلاف الباحثين فيه والصوفية أنفسهم أيضا , ولقد سئل الشبلي: لم سميت بهذا الاسم؟.
فقال: (هذا الاسم الذي أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه).
ولا زالوا مختلفين فيه حتى اليوم.
فلقد نقل الطوسي أبو نصر السراج في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي , عن صوفي أنه قال:
(كان في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك , فقيل: صوفي – وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد: هو مأخوذ من الصفاء).
وينقل الكلاباذي أبو بكر محمد الصوفي المشهور عن الصوفية أقوالا عديدة في أصل هذه الكلمة واشتقاقها , فقال:
قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها , ونقاء آثارها. وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفت لله معاملته , فصفت له من الله عز وجل كرامته.
وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه , وإقبالهم عليه , ووقوفهم بسائرهم بين يديه.
وقال قوم: إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة , الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف.
وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم , وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا , فخرجوا عن الأوطان , وهجروا الأخدان , وساحوا في البلاد , وأجاعوا الأكباد , وأعروا الأجساد , لم يأخذوا من الدنيا إلا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه , من ستر عورة , وسد جوعة.
فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء. ولكثرة أسفارهم سموا سياحين.
ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار (شكفتية) والشكفت بلغتهم: الغار والكهف.
وأهل الشام سموهم (جوعية) لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه).
وقال السري السقطي , ووصفهم فقال: أكلهم أكل المرضى , ونومهم نوم الغرقى , وكلامهم كلام الخرقى.
ومن تخيلهم عن الأملاك سموا فقراء.
قيل لبعضهم: من الصوفي؟ قال: الذي لا يَملك و لا يُملك. يعني لا يسترقه الطمع.
وقال آخر: هو الذي لا يملك شيئا , وإن ملكه بذله.
ومن لبسهم وزيّهم سموا صوفية , لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه , وحسن منظره , وإنما لبسوا لستر العورة , فتجزَّوا بالخشن من الشعر , والغليظ من الصوف.
ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة , الذين كانوا غرباء فقراء مهاجرين , أخرجوا من ديارهم وأموالهم , ووصفهم أبو هريرة و فضالة بن عبيد فقالا: يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين. وكان لباسهم الصوف , حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه المطر.
هذا وصف بعضهم لهم , حتى قال عيينة بن حصن للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليؤذيني هؤلاء أما يؤذيك ريحهم؟.
ثم الصوف لباس الأنبياء , وزي الأولياء.
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه مرَّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق).
وقال الحسن البصري: كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر , ويأكل من الشجرة , ويبيت حيث أمسى.
وقال أبو موسى: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف , ويركب الحمار , ويأتي مدعاة الضعيف.
وقال الحسن البصري: لقد أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف.
فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا , ولبسهم وزيهم زي أهلها , سموا صُفية وصوفية.
ومن نسبهم إلى إلى الصفة والصف الأول فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم , وذلك أن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها , صفَّى الله سره , ونور قلبه.
¥