وهي تشبه تماما أديرة الرهبان النصارى ذات الأسوار العالية البعيدة عن عالم الناس والعمران , نتيجة للهروب من عالم الترف المادي إلى عالم الترف الروحي , ومن هذه الأديرة تطورت كثير من الأفكار الإيجابية , خرج بها رهبان لفتح حقول جديدة على مبادئ من الطهارة والفقر والخضوع.
(أما الطهارة فكان معناها ليس تطهير الجسد بالصوم , بل كانت تعني فوق ذلك قطع علاقات محبة الأب أو الأم أو الابن أو الأخت حتى يكون الراهب أقدر على خدمة البشر , وتصبح المحبة هنا ديانة إنسانية شاملة ز
أما الفقر فكان يعني التحرر المطلق من قيود الأشياء , ورفض المصالح المادية من أجل خدمة الإنسان , وكان الخضوع يعني الاستسلام الكامل لإرادة الله للقيام بالواجبات).
ولقد صرح الكتور قاسم غني أن المسيحية: (استطاعت أن تعلم صوفية المسلمين آدابا وعادات كثيرة عن طريق زمرة المتقشفين وفرق الرهبان المتجولين , ولا سيما الجماعات السورية المتجولة في كل مكان ممن كانوا على الأغلب من فرق النصارى النسطوريين , في حين أن تأثير كنائس المسيحية في المسلمين كان في نطاق محدود جدا.
وأن الحياة في الصوامع والخانقاوات كانت أيضا مقتبسة من المسيحية إلى حد كبير).
وبمثل ذلك قال نيلكسون , المستشرق الإنجليزي الكبير الذي عرف باختصاصه في الدراسات عن التصوف , حيث يذكر تحت تطور الزهد في العصور الوسطى:
(لم يخرج الصوفية كثيرا على الحديث القائل: لا رهبانية في الإسلام إلا بعد مضي عدة قرون – إلى أن يقول -: وإننا لا نعلم إلا القليل عن نظام الزهد الرهباني ونشأته في العصور الإسلامية الأولى , ويقال: أن أول خانقاه أسست لمتصوفة المسلمين كانت برملة في فلسطين قبل نهاية المائة الثامنة الميلادية على ما يظهر , وأن مؤسسها كان راهبا مسيحيا ... وقد الصوفية بعض الأحاديث المدخولة على النبي , التي تشير لإباحة العزوبة لجميع المسلمين بعد المائتين من الهجرة فقد ظهر نظام الرهبنة في الإسلام حوالي هذا التاريخ تقريبا. نعم لم يعم الزهد في العالم الإسلامي , ولم تظهر فيه الربط والزوايا المنظمة إلا في عصر متأخر , لأن القارئ للكتب التي ألفت في التصوف حتى منتصف القرن الخامس الهجري , مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي , وحلية الأولياء لأبي نعيم , والرسالة للقشيري , قلما يجد فيها إشارة إلى هذا الربط والزوايا , ومع ذلك نجد أن كبار الصوفية من رجال القرنين الثالث والرابع قد اجتمع حولهم المريدون ليأخذوا عنهم الطريق ويتأدبوا بآدابه. ومن الطبيعي أن هؤلاء المريدين أقاموا في بيوت دينية من نوع ما , كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. ويذكر المقريزي أن الخانقاوات وجدت في الإسلام في القرن الخامس الهجري المقابل للقرن الحادي عشر الميلادي. وإذا سلمنا بقول المقريزي فعلى معنى أن خانقاوات الصوفية التي كان يجتمع فيها المريدون تحت إشراف مشايخهم , لم تكثر وتنتشر في بلاد المملكة الإسلامية إلا في هذا التاريخ , وهذا يتفق مع ما ورد في كتاب آثار البلاد للقزويني حيث يقول إن أبا سعيد بن أبي الخير (المتوفى 1049 م لا حوالي 815 كما يقول دي ساسي خطأ – ولا كما يقول دوزي وفون كريمر نقلا عن دي ساسي) يذكر عنه أنه مؤسس نظام الرهبنة في التصوف الإسلامي وأول واضع لقواعده وقوانينه. وبعد ذلك بمائتي سنة – أي بين 450 , 650 – زيد في نظام الرهبنة وانتشر هذا النظام على أيدي رجال الطرق , كالعدوية والقادرية والرفاعية وغير ذلك من الطرق التي توالى ظهورها سريعا).
هذا بالنظر إلى أنه لا يوجد في تعاليم القرآن والسنة رسم ولا أثر لهذه التكايا والزوايا والخانقاوات والربط , بل أمر المسلمين ببناء المسجد للعبادة كما أمروا بتعمير بيوتهم بقراءة القرآن فيها والعبادة.
وأما بناء الأمكنة الخاصة للتعبد والذكر والأوراد فليس إلا تقليلا لشأن المساجد , وصرف الناس عنها , وإعطاء التكايا والزوايا والربط مكانتها وشأنها , وفي هذا مخالفة لأوامر الله وتعاليم رسوله صلوات الله وسلامه عليه. وعلى ذلك قال ابن الجوزي:
(أما بناء الأربطة فإن قوما من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد , وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على الخطأ من ستة أوجه:
أحدها: أنهم ابتدعوا هذا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد.
¥