ثم أخذ المتصوفة بدورهم أفكار الشيعة ومعتقداتهم , فآمنوا بها واعتقدوها , وجعلوها من الأصول والقواعد لعصابتهم , فقالوا مثل ما قاله الشيعة والفرق الباطنية:
(العلوم ثلاثة: ظاهر , وباطن , وباطن الباطن , كما أن الإنسان له ظاهر , وباطن , وباطن الباطن.
فعلم الشريعة ظاهر , وعلم الطريقة باطن , وعلم الحقيقة باطن الباطن).
وقال الطوسي أبو نصر السراج:
(إن العلم ظاهر وباطن ... ولا يستغني الظاهر عن الباطن , ولا الباطن عن الظاهر , وقد قال الله عز وجل: ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم: فالمستنبط هو العلم الباطن , وهو علم أهل التصوف , لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك ... فالعلم ظاهر وباطن , والقرآن ظاهر وباطن , وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وباطن , والإسلام ظاهر وباطن).
وذكر المتصوفة نفس تلك الرواية التي نقلها الشيعة والإسماعيلية , وهي:
(لكل آية ظاهر وباطن , وحدّ ومطلع).
ولم يكن التشابه والتوافق مع الشيعة , والاستفادة والاقتباس منهم منحصرا في هذا فحسب , بل كان هناك تجانس وتداخل في أكثر من هذا , حيث قالوا باختصاص علي رضي الله عنه دون الآخرين بعلم الباطن , فقال قائلهم:
(إن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة , فلما تقررت ظواهر الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة المقصودة , والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة , هي: الإيمان والإحسان , فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بباطن الشريعة بعض أصحابه دون البعض.
وكان أول من أظهر علم القوم وتكلم فيه سيدنا علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم انتشر هذا الطريق انتشارا لا ينقطع حتى ينقطع عمر الدنيا).
وأوردوا في كتبهم تلك الرواية الشيعية بعينها , التي نحن ذكرناها منهم عن علي رضي الله عنه أنه قال:
(علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين بابا من العلم لم يعلم ذلك أحد غيري).
وهناك روايات شيعية أخرى كثيرة أوردها المتصوفة في كتبهم ومؤلفاتهم , مؤيدين لها , مؤمنين بها , مستدلين منها , مثل هذا الحديث الموضوع: (أنا مدينة العلم وعلي بابها).
ومنها ما رووه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كذبا عليه أنه قال: (كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع نعله , فتناولها علي يصلحها , ثم مشى , فقال:
(يا أيها الناس , إن منكم من يقاتله علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله).
ومثل ذلك ذكر عبد الرحمن الصفوري في كتابه (نزهة المجالس ومنتخب النفائس).
وقال ابن الفارض في تئيته:
(وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا عليّ بعلم ما ناله بالوصية).
وهذا تشيع محض بدون شك ولا شبهة.
وكذلك ما قاله ابن عربي في تفسيره مفسرا قول الله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ 0 عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}.
(إنه القيامة الكبرى , ولهذا قيل: إن أمير المؤمنين علي هو النبأ العظيم , وهو فلك نوح أي الجمع والتفصيل – باعتبار الحقيقة والشريعة – لكونه جامعا لهما).
وعلى ذلك قال الهجويري:
(علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم المصطفى , وغريق بحر البلاء , وحريق نار الولاء , وقدرة الأولياء والأصفياء أبو الحسن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وله في هذه الطريقة شأن عظيم , ودرجة رفيعة. وكان له حظ تام في دقة التعبير عن أصول الحقائق إلى حدّ أن قال الجنيد رحمه الله: شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى رضي الله عنه.
أي أن عليا رضي الله عنه هو إمام هذه الطريقة في العلم والمعاملة , فأهل الطريقة يطلقون على علم الطريقة اسم الأصول , ويسمون تحمل البلاء فيها بالمعاملات).
والطوسي قال نقلا عن أبي عليّ الروذباري أنه قال:
(سمعت جنيدا رحمه الله يقول: رضوان الله على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذاك امرؤ أعطى علم اللدنّي , والعلم اللدنّي هو العلم الذي خص به الخضر عليه السلام , قال الله تعالى: وعلمناه من لدنّا علما).
ثم نقل عن علي رضي الله عنه أشياء وقال بعده:
¥