فمثلا الطوسي يذكر متصوفة كثيرين رموا بالزندقة والإلحاد , ولكنه يبرّء ساحتهم من هذه التهم بهذه المقولة , فمثلا يقول عن عبد الله الحسين بن مكي الصبيحي أنه (تكلم بشيء من علم الأسماء والصفات وعلم الحروف فكفره أبو عبد الله الزبيري , وهيّج عليه العامة , فقال: إن سهل بن عبد الله قال له: نحن فتحنا للناس جراب الهلتيت فلم يصبروا علينا , فلم كلمتهم أنت بما لا يعرفون , فكان ذلك سبب خروجه من البصرة , ثم قال: وكان إذا تكلم بعلوم المعارف يدهش العالم).
ومثل ذلك ذكر أبا سعيد أحمد بن عيسى الخراز فقال:
(أنكر عليه جماعة من العلماء , ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنّفه وهو: كتاب السرّ , فلم يفهموا معناه , وهو قوله: عبد رجع إلى الله , وتعلق بالذكر , وذكر في قرب الله وطالع ما أذن له من التعظيم لله , ونسي نفسه وما سوى الله , فلو قلت له: من أين أنت وأين تريد؟ لم يكن جواب غير قول (الله)).
هذا , وذكر الآخرين كذلك , وقبل ذلك عللّ سبب تكفير العلماء إياهم بقوله:
(فمنهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب , ولم يكن لهم زاجر من العقل ولا واعظ من الدين أن يستبحثوا عن المعاني التي أشكلت عليهم ويسألوا ذلك عن أهلها , وقاسوا من ذلك بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا).
والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا تعدّ ولا تحصى.
وأخيرا يحسن بنا أن نورد بعض الأمثلة للتأويلات الصوفية في القرآن والحديث النبوي الشريف لتمام الفائدة وإكمال البحث.
فيذكر ابن عطاء الله الإسكندري في لطائفه نقلا عن بعض مشائخه أنه فسّر الآية {يهب لمن يشاء إناثا} الحسنات {ويهب لمن يشاء الذكور} العلوم , {ويجعل من يشاء عقيما} لا علم ولا حسنة , كما مضى أيضا من قول الله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}.
فقال الشيخ: بقرة كل إنسان نفسه , والله يأمرك بذبحها , وكما سيأتي إن شاء الله في تفسير الأحاديث , فذلك ليس إحالة للظاهر عن ظاهره , ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت له الآية , ودلت عليه في عرف اللسان , وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث , لمن فتح الله على قلبه).
وقال الجيلي مفسرا قول الله عز وجل: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} يقول في تفسيره:
(اتفقت العلماء على أن (هل) في هذا الموضوع بمعنى قد: يعني قد أتى الإنسان حين من الدهر , والهر هو الله , والحين تجل من تجلياته (لم يكن شيئا) يعني أن الإنسان لم يكن شيئا (مذكورا) , ولا وجود له في ذلك التجلي , لا من حيث الوجود العيني ولا من حيث العملي , لأنه لم يكن شيئا مذكورا , فلم يكن معلوما , وهذا التجلي هو أزل الحق الذي لنفسه).
ثم يؤوّل الجيلي الصوم والصلاة والزكاة والحج تأويلا باطنيا محضا , كالإسماعيلية تماما , فيقول:
(وأما الصلاة فإنها عبارة عن واحدية الحق تعالى , وإقامتها إشارة إلى إقامة ناموس الواحدية بالاتصاف بسائر الأسماء والصفات , فالطهر عبارة عن الطهارة من النقائص الكونية ... وقراءة الفاتحة إشارة إلى وجود كماله في الإنسان لأن الإنسان هو فاتحة الوجود ....
وأما الزكاة فعبارة عن التزكي بإيثار الحق على الخلق ... وأما كونه واحدا في كل أربعين في العين فلأن الوجود له أربعون مرتبة , والمطلوب المرتبة الإلهية , فهي المرتبة العليا , وهي واحدة من أربعين ...
وأما الصوم فإشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف بصفات الصمدية , فعلى قدر ما يمتنع: أي يصوم عن مقتضيات البشرية تظهر آثار الحق فيه ...
وأما الحج فإشارة إلى استمرار القصد في طلب الله تعالى , والإحرام إشارة إلى ترك شهود المخلوقات ... ثم ترك حلق الرأس إشارة إلى ترك الرياسة البشرية ... ثم مكة عبارة عن المرتبة الإلهية , ثم الكعبة عبارة عن الذات , ثم الحجر الأسود عبارة عن اللطيفة الإنسانية .... ) ز
وبمثل ذلك ذكر الكلاباذي عن بعض مشائخه أنه قال:
(معنى الصلاة: التجريد عن العلائق , والتفريد بالحقائق , والعلائق ما سوى الله , والحقائق ما لله ومن الله.
وقال آخر: الصلاة وصل.
قال: سمعت فارسا يقول: معنى الصوم: الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق عز وجل).
¥