لكن هذه أمور لم يكن الغرض منها الكلام في تجديد أصول الفقه، وإن كانت تمس بعض موضوعاته، ولعلّ إثارة هذا الموضوع – أي تجديد أصول الفقه – بخاصة لم تظهر قبل السبعينات من القرن الميلادي السابق، وقد تكون رسالة (تجديد أصول الفقه الإسلامي) الصغيرة للدكتور حسن الترابي، الصادرة في سنة 1400هـ/ 1980م من أقدم ما صدر بهذا الشأن في العصر الحديث، وقد نشرت مقالات متعددة في بعض المجلات، كما نشرت كلمات موجزة لبعض الأساتذة قالوها في مقابلات للدكتور عبدالحليم عويس، كان ينشرها في ملف الشرق الأوسط الفقهي بعنوان (أصول الفقه بين التقليد والتجديد) وهي وما يشبهها في الكتابات العجلى لم تتضمن شيئاً ذا بال.
وقد كثر الكلام في هذا الشأن، أعني التجديد والدفاع عن الشريعة، وكان الكثير مما نشر يتعلق بمسألة التوفيق بين الشريعة ومستجدات الحياة، سواء كانت اقتصادية أو علمية، أو اجتماعية، أو غيرها، وكذلك واقع المجتمعات الإسلامية مما يدخل كثير منه في مجال الاجتهاد والفتوى، ومنا ينبغي أن يتحقق فيها. ومثل هذه المحاولات بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، مع الشيخ محمد عبده (ت 1905م)، ثم تتالت بعد ذلك، وكثرت إلى درجة بلغت الإحاطة بها بالغة الصعوبة، وغير مجدية، أيضاً، لكون الكثير منها مما يكرر ويعاد.
وهذا الاتجاه له سابقة قديمة في بعض التفاسير الشبيهة بالتفاسير العلمية كتفسير (مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ، وفي بعض ما كتبه الحكماء، أو الفلاسفة المسلمون، مثل (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) لمحمد بن أحمد بن رشد الحفيد المتوفى سنة 595هـ. لكن هذا الموضوع لم يكن مختصاً بمسألة التجديد، أو التطوير، إن صح التعبير. ولهذا فإن محاولة الدكتور حسن الترابي تمثل مكاناً هاماً في هذا المجال. وسأعرض عن الجزئيات والتفصيلات وشطحات اللسان، وأقتصر على أهم ما ذكره في مجال الأدلة.
يرى الدكتور الترابي أن الرجوع إلى النصوص، بقواعد التفسير الأصولية لا يشفي إلا قليلاً، لقلة النصوص. وأنه يلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر. وأن علم أصول الفقه الذي من شأنه أن يكون هادياً للتفكير آل إلى معلومات لا تهدي إلى فقه، ولا تولد فكراً. وقال: إن الفقه يعلمك كيف تستنجي ولكن لا يعلمك كيف تقود سيارة. إلى آخر ذلك من الكلمات التي تنم عن الظلم للفقه وبخسه منزلته. ولا ندري إذا كان من مهمات الفقه، بل قوانين العالم وشرائعه، أن تعلم الشخص كيف يقود السيارة.
ومهما يكن من أمر فإن دعوته التجديدية بشأن الأدلة أو مصادر التشريع تتلخص في الأمور الآتية:
1 - الأخذ بالقياس الواسع، بأن نستقرأ بعض النصوص ويؤخذ منها المعنى الجامع، أو القصد، فيقاس على ذلك.
2 - التوسع في المصالح المرسلة والمقاصد، وتوسيع نطاقها.
3 - الأخذ بالاستصحاب الواسع، وتفعيل بعض الأصول المبنية عليه.
4 - الأخذ بالإجماع وفق صورة جديدة تختلف عن صورة الإجماع التقليدي.
5 - جعل أمر الحاكم وقراره مصدراً من مصادر التشريع.
وسنذكر فيما يأتي كلاماً موجزاً عن هذه الأمور:
أما القياس فيرى أنه بمعاييره التقليدية محدود لا يفي بمتطلبات الحياة (11).وربما صلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبيين أحكام النكاح والشعائر والآداب، ولكنه لا يجدي في المجالات الواسعة في الدين (12).ولذلك ينبغي أن لا يكون الأصل المقيس عليه نصاً محددا ً، بل ينظر إلى جملة من النصوص، ويستنبط منها مقصد معين من مقاصد الدين، أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد عند التطبيق على الوقائع أو النوازل الجديدة. وأن هذا القياس الإجمالي الواسع، أو قياس المصالح المرسلة، درجة أرقى في البحث عن جوهر مناطات الأحكام (13).
وما ذكره الدكتور الترابي يدخل في مفهوم القياس بمعنى القاعدة العامة المتوصل إليها باستقراء طائفة من النصوص والأحكام، وهذا أمر متبع ومعلوم للعلماء، ولكنهم لم يُلْغُوا بسببه القياس الأصولي المعروف، أي قياس العلة، لكونه أقوى في الدلالة على حكم الوقائع من القواعد العامة.
¥