[دعوة للمناقشة الهادئة حول حجية القياس حتى يظهر الحق]
ـ[نصر الدين المصري]ــــــــ[26 - 08 - 06, 06:53 ص]ـ
دعوة للمناقشة حول حجية القياس
في هذا البحث الموجز عرض لما رأيته من أمر القياس و حكمه، فإن كنت قد أصبت فمن الله، و إن كنت قد أخطأت فلعلي أجد من يصوب لي
قلت:
و القياس في الأحكام عند أصحابه لا يخرج من ثلاث هيئات:
1 - قياس العلة، و يستند إلى إرجاع الحكم إلى صفة مؤثرة موجودة في الأصل، و يتم إلحاق الفرع المسكوت عنه بالأصل في الحكم متى توافرت فيه هذه الصفة التي يطلقون عليها العلة و التي يعلقون الحكم عليها.
2 – قياس الشبه، (و فيه خلاف بين القياسيين) و يستند إلى وجود صفة مشتركة بين الأصل و الفرع تحقق نوعا من الشبه، وتكون سببا لإلحاق الفرع بالأصل في الحكم.
3 – قياس الاقتراب من التطابق، و يستند إلى إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لاتفاقهما في كل الصفات عدا صفة واحدة أو اثنتين، و يسمى أيضا قياس معنى الأصل أو تنقيح المناط.
و قد أكثر القياسيون من إلحاق أحكام المسائل بالقياس، رغم دلالة النص على حكم بعضها دون الحاجة إلى القياس، فالنص أحيانا فيه ما يُغني عن القياس، فمثلا ما ورد في الأصناف التي يجري فيها الربا، فقد نص الحديث على ستة أصناف و فيه (الذهب بالذهب و الفضة بالفضة و البر بالبر و الملح بالملح و الشعير بالشعير والتمر بالتمر، سواء بسواء،يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)، فحاول القياسيون معرفة العلة في كل صنف لإلحاق المسكوت عنه بأحد هذه الأصناف (!!)، والمعلوم أن تحريم الربا في الأصل عرفناه من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم ْتُفْلِحُونَ)، فدل النص أن كل ما يؤكل يجري فيه الربا، و المراد بما يؤكل هو أخذ المال على إطلاقه كما في قوله تعالى (و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) و غير ذلك من النصوص الدالة على هذا المعنى الاصطلاحي للأكل، و المال في لغة العرب لفظ عام يشمل كل ما يمكن أن يملكه الإنسان، فإن عدنا إلى الحديث لم نجد فيه دلالة على الحصر أو تقييد الربا بالأصناف الستة، فتبقى الآية على إطلاقها و يجري الربا في كل أنواع المال.
و كذلك رأيت القياسيين يطلقون اسم العلة على ما ليس منها، و أعني بذلك العلة المنصوص عليها مدعومة بلفظ يفيد التعليل لا احتمال فيه أو العلة المنصوص عليها في السياق مع غياب أي قرينة تصرفها عن التعليل، فهذه ليست علة بل جزء من الحكم ذاته، فيسمون جزء من الحكم علة و (هذا جائز لغويا) لدعم مذهبهم في التعليل و القياس، حيث يتيح لهم ذلك أن ينسبوا أحكام بعض المسائل للقياس و هي منه براء، و كذلك أصبح ما يسمونه تحقيق المناط عند بعضهم من القياس!.
و هكذا تضخم الموروث القياسي بما ليس منه من الأحكام، و أصبح من العسير على النفس الاقتناع ببطلانه.
و قد ترتب كذلك على القياس مفهوم خاطيء في الخلط بين أمور الدين و أمور الدنيا، فظن البعض وجوب إلحاق كل أمور الدنيا بالأحكام الشرعية، حتى شذ بعضهم لشدة تعلقه بهذا الوهم فقال أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة (!!)، في حين نجد في الحديث الصحيح مرفوعا (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
و على النقيض من ذلك نجد من عُرفوا بالظاهرية قد جمد بعضهم على المعنى الحرفي للنص، و لا أقول المعنى الظاهر، فلا خلاف على الأخذ بالظاهر و عدم تأويله تأويلا يخالف هذا الظاهر دون مؤول من النص أو إجماع متيقن عن الصحابة، لا خلاف في ذلك و لم يشذ عنه سوى أصحاب الرأي و أهل الباطن، و لكن الخلاف في الاكتفاء بالظاهر، و الاكتفاء به هو الحق، و لكن حماس الظاهرية لهذا الاكتفاء دفعهم إلى نوع من الجمود حرفية النص، و تجاهل الضوابط التي حددها النص لإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه. و التي سأكون بصدد بيانها إن شاء الله.
و ينبغي الإشارة إلى أن إبطال القياس يعني حصر الإجماع في الوحي، إذ لا سبيل إلى الوصول إلى إجماع من خارج الوحي إلا أن يكون الله قد أذن للناس أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به سبحانه، و لا يخفى بطلان ذلك، فلا إجماع صحيح دون دليل من النص، أو إجماع متيقن عن الصحابة، فإجماع الصحابة لا يمكن أن يكون إلا فيما أخذوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أو شاع بينهم و سكت عنه الوحي فكان السكوت دليل الإقرار، و قد رأيت الإشارة إلى ذلك لأني رأيت بعض طلبة العلم لم ينتبهوا إلى ذلك، و فصلوا بين مفهوم الإجماع و نفي القياس رغم ارتباطهما الوثيق.
و هذا البحث الموجز سينقسم إلى ثلاثة فصول:
الأول: بيان الضوابط الشرعية لإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه.
الثاني: أدلة إبطال القياس.
الثالث: تفنيد الأدلة التي استند إليها أهل القياس.
و الله المستعان.
يتبع إن شاء الله.
¥