[الفقه الافتراضي بين أهل الرأي وأهل الحديث]
ـ[محمود النجيري]ــــــــ[29 - 08 - 05, 03:03 ص]ـ
الفقه الافتراضى
بين أهل الرأى وأهل الحديث
الفقه الافتراضى هو اجتهاد الفقيه فى وضع الحكم الشرعى لما لم يقع بعد من الحوادث والنوازل المقدرة. ومثاله: ما كان حين نزل قتادة الكوفة، فقام إليه أبو حنيفة، فسأله: يا أبا الخطاب ما تقول فى رجل غاب عن أهله أعوامًا، فظنت امرأته أن زوجها مات، فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول. ما تقول فى صداقها؟ وكان أبو حنيفة قد قال لأصحابة الذين اجتمعوا إليه: لئن حدَّث بحديث ليكذبن، ولئن قال برأى نفسه ليخطئن. فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا. قال: فلِمَ تسألنى عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة: ((إنا لنستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع، عرفنا الدخول فيه والخروج منه)). (1)
أهل الحديث وتوقفهم عن الافتراض
نشأت مدرسة الحديث الفقهية فى الحجاز فى أواخر العصر الأموى، وزعيمها الإمام مالك، ومن بعده الإمام الشافعى، والإمام أحمد، وغيرهم. وتميز عمل هذه المدرسة الفقهى بما يلى:
1 - الوقوف عند النصوص والآثار، والتمسك بظواهرها، دون بحث عن علة الحكم.
2 - لا يلجئون إلى الرأى إن كان هناك نص أو أثر، وإن رواه واحد فقط، ما دام هذا الراوى ثقة عدلاً.
3 - الاعتماد على رأى فى حالات الضرورة القصوى، والامتناع عن الفصل فى المسائل التى لا حكم لها يعرفونه من الكتاب أو السنة، أو الاجماع، ولا رأى صحابى.
4 - التوقف عن الخوض فى المسائل التى لم تقع فعلاً.
أهل الرأى وتوسعهم فى الافتراض
نشأت هذه المدرسة الفقهية فى العراق فى أواخر العصر الأموى أيضًا، وزعيمها الإمام أبو حنيفة. وتميز عملها الفقهى بما يلى:
1 - يذهب أهل الرأى إلى أن أحكام الشرع معقولة المعنى، تشتمل على مصالح ترجع إلى العباد، كما أنها بنيت على أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك الحكم، فكانوا يبحثون عن تلك العلل والحكم، ثم يربطون الحكم بها وجودًا وعدمًا.
2 - التشدد فى قبول أخبار الآحاد، وذلك لأن الكوفة لم تكن موطن الحديث كما كانت المدينة، وفى الكوفة انتشرت كثير من البدع، ووضعت الأحاديث لتعضيدها.
3 - التوسع فى استخدام القياس، وافتراض حوادث لم تقع، وإبداء الرأى فيها.
وقد أفادت هذه المدرسة فى مرونة الفقه الإسلامى، وتوسع نطاقه فى الزمان والمكان، وانتقاله من المرحلة الواقعية إلى المرحلة النظرية، وذلك من خلال مجهود فقهائها الذهنى الذى غطى أوجه الحياة كلها.
الافتراض فى الكتاب والسنة وعند السلف
ورد فى القرآن الكريم ما يفهم منه كراهة السؤال عما لم يقع، فى قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم .... } [المائدة: 101].
وفى الصحيحين ورد نهى النبى ? عن السؤال عما لم يقع بقوله ((دعونى ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). وروى أحمد من حديث معاوية أن النبى ? نهى عن الأغلوطات. وتشمل هذه الأغلوطات المسائل المفترضة لتغليط الخصم وتعجيزه، والمسائل التى لا طائل وراءها. وكان عمر بن الخطاب يقول: " إياكم وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله إليها من يقيمها ويفسرها ". (2)
وأثر عن السلف كراهة الكلام فيما لم يقع، وتوقفهم عن الإفتاء فيه، فعن مسروق قال: سألت أبى بن كعب عن مسألة، فقال: أكانت هذه بعد؟ قلت: لا. قال: " فأَجِمَّنى حتى تكون ". (3)
وعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان لا يقول برأيه فى شىء يُسئل عنه حتى يقول أنزل أم لا؟ فإن لم يكن نزل، لم يقل فيه. وإن يكن وقع تكلم فيه. (4) وقال ابن مسعود: " إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت، أرأيت. ولا تقس شيئًا فتزل قدم بعد ثبوتها، وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم، فليقل: لا أعلم، فإنه ثلث العلم ". (5)
¥