ولكن الجبلة البشرية، التي فطر الله الناس عليها: من الاختلاف في الأفهام، وقوى العقل والإدراك، مع التفاوت بين الناس في معرفة الأدلة واستيعابها، سواء من حيث الثبوت، أو من حيث الدلالة، ومع التفاوت بينهم في تصور المسائل، وفهم أبعادها، إضافة إلى تفاوت مقدار الإخلاص والصدق في معرفة الحكم بعيدًا عن كل تعصب مذهبي، أو تقليد غير بصير؛ كل ذلك جعل العلماء والباحثين والمؤلفين يختلفون في طرائقهم التي يسلكونها في معرفة الأحكام، ثم يختلفون في ذات الأحكام التي توصلوا إليها.
وعلى رغم كثرة ما أُلِّف وكُتب في علم (أصول الفقه) -وهو العلم الذي يُعنى ببحث طرائق استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية- في جميع المذاهب مما لا يكاد يقع تحت الحصر، وعلى رغم الاختلافات الهائلة بين مناهج الفقهاء، والتباين البعيد بين مسالكهم؛ فقلما يلتفت أحد من المسلمين -وخاصة في هذا العصر- إلى التفكير بوضع الأصول الشرعية، والقواعد العامة، التي تعين الباحث المنصف البعيد عن التعصب على معرفة الأحكام بطريقة سليمة، خاصة وقد التبس الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، في كثير من الأحيان؛ حتى عسر تمييز ذلك إلا على من وفقه الله للفهم، ورزقه الإخلاص، وعصمه بالبصيرة النافذة.
ولست أعني بوضع الأصول والقواعد: إنشاءها واختراعها؛ فهذا ما لا سبيل إليه لمن أراد أن يكون مسلمًا حقًا، فالابتداع في الفروع -فضلاً عن القواعد والأصول- ضلال، واستدراك على الشرع، وطعن في المبلغ صلى الله عليه وسلم، وقد قيل:
وخيرُ الأمورِ السالفاتُ على الهدى
وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ
وقيل:
وكلُّ خيرٍ في اتباعِ مَنْ سَلَف
وكُلُّ شرٍّ في ابتداعِ مَنْ خلف
وإنما أعني بذلك تمحيصها من كتب الأصول والفقه والحديث والعقائد، وجمعها، والتنسيق بينها بطريقة تناسب العصر، وتيسر الأمر.
وأعني -أيضًا- دراسة الأمور التي يكثر فيها النزاع من القواعد والأصول، دراسة صادقة يُتَحرى فيها الصواب -ولا شيء غيره-؛ لتكون نبراسًا للباحثين عن الحق، يعصمهم الله بها من التردي في مهاوي الإفراط أو التفريط، وذلك كمسألة "الاجتهاد والتقليد" مثلاً.
وقد استعنت الله تعالى في بدء المحاولة، على ضعف الآلة، وضعف الهمة، وضعف الإخلاص -والله المستعان-. ولكن لعل ما حاولته في هذه الصفحات يكون داعية لبعض المخلصين والغيورين؛ أن يتناولوا الموضوع -من جديد- تناولاً جادًا، يكشف غوامضه، ويجلي خوافيه.
وقد قسمت هذه الدراسة إلى: تمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة.
ففي التمهيد: تحدثت عن أهمية الفقه في الدين، وفضله، وأنه شرط رئيس للخيرية والسؤدد في الإسلام -كما نطقت بذلك النصوص-.
وفي الباب الأول: حاولت أن أعمل "تقويمًا" عامًّا للمكتبة الإسلامية الفقهية.
فتحدثت في الفصل الأول عن: الكتب الفقهية القديمة.
وتحدثت في الفصل الثاني عن: الكتب الفقهية الحديثة.
وفي الباب الثاني: تحدثت في فصلين عن: الشروط المنهجية في البحث العلمي -أيًا كان اختصاصه ومجاله- والمراحل التي يمر بها.
ثم عن الصفات العلمية للباحث، سواء الصفات العامة لأي باحث، أو الصفات الخاصة لبحث موضوع بعينه. ولتطبيق هذه الصفات العامة على من يبحث في مجال الفقه؛ وسَّعت الكلام على صفات الباحث في الأمور الفقهية، وعلى العلوم التي يحتاج إليها في اختصاصه.
وفي الباب الثالث: -وهو جوهر الموضوع- حاولت حصر ما توصلت إليه من الضوابط العامة للباحث في الفقه؛ ولذلك جاء هذا الباب طويلاً، واحتوى على تسعة فصول.
الفصل الأول: بين التيسير والتشديد.
الفصل الثانى: كراهة التنطع والتوسع في افتراض المسائل.
الفصل الثالث: بين الاجتهاد والتقليد.
الفصل الرابع: مبحث الخلاف والترجيح.
الفصل الخامس: حول فقه النوازل.
الفصل السادس: عن ألفاظ التحليل والتحريم، والتسرع في إطلاقها.
الفصل السابع: عن التربية والعبادة والبناء الخلقي.
الفصل الثامن: الأدلة الشرعية، وترتيبها، وكيفية إعمالها.
الفصل التاسع: كلمة في المراجع.
ثم ختمت البحث بخاتمة، سجلت فيها أهم ما مر في البحث من النتائج، وأتبعت ذلك بذكر المصادر والمراجع التي استفدت منها في البحث.
وإنني لأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن يثيبني عليه، ويغفر لي ما قصرت فيه.
¥