ثامناً: أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية مبني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل؛ لأن المطلوب في المسائل العملية أمران: العلم والعمل، والمطلوب في المسائل العلمية: العلم والعمل ـ أيضاً ـ فليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وعمل الجوارح تبع، ومن قال بالتفريق فعليه الدليل، ولا دليل.
بل إن أغلب الأحاديث العملية والأحكام تتضمن أموراً اعتقادية، ففي التشهد الأخير - مثلاً - يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس أحدكم في التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا وفتنة الممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" رواه الشيخان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص74.
فهذا الحديث وأمثاله يلزم القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العقائد، يلزمهم ولا يمكنهم نقضه.
تاسعاً: أن دعوى اتفاق الأصوليين على ظنية خبر الآحاد وعدم إفادته للعلم الموجب للعمل، دعوى باطلة.
قال القاضي أبو يعلى "ت458هـ": "خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه الأمة بالقبول" (1).
وقال أبو إسحاق الشيرازي "ت 476": "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل، به الكل أو البعض" (2).
وبهذا ينتهي تلخيص الرد على من زعم أن خبر الآحاد يفيد الظن المرجوح ولا يفيد العلم.
وأخيراً فما نتيجة هذا القول والأخذ به؟
والجواب يتلخص فيما يأتي:
1 - ردّ كثير من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الأخذ بها لا في الأحكام ولا في العقائد.
2 - اتخاذ أهل الزيغ والحقد والهوى هذا القول أساساً بنوا عليه شبهاتهم التي اتخذوها سلماً للتشكيك والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
(1) العدة 2/ 187.
(2) شرح اللمع ص 75.
من المستشرقين والمستغربين ومن تبعهم من أمثال: جولد زيهر (1)، ويوسف شاخت (2)، ومرجليوث (3)، وهاملتون جيب (4) وزويمر (5)، ومحمود أبو ريَّه (6)، ونصر أبو زيد (7)، والشيخ محمود شلتوت (8) والشيخ محمد الغزالي (9) وغيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) يهودي مجري، تعلم العربية وتسلح بها وتتلمذ على العلامة الشيخ طاهر الجزائري"ت 1921م".
(2) تلميذ سابقه، تعلم العربية كان عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، له كتب كثيرة عن الإسلام كلها تشويه وضلال.
(3) يهودي إنجليزي متعصب ضد الإسلام "ت1940م".
(4) ولد بالإسكندرية بمصر، وهو إنجليزي أصبح خليفة لسابقه في جامعة اكسفورد ومجمع اللغة العربية بدمشق ت"1965م".
(5) اسمه صمويل زويمر، مستشرق، عمل مبشراً في البحرين، وضع خريطة تنصير العالم الإسلامي.
(6) في كتابه "أضواء على السنة المحمدية".
(7) معاصر.
(8) في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" ص 61 حيث قال: "إن حديث الآحاد لا يفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليه في المغيبات".
(9) حيث قال في كتابه "مائة سؤال عن الإسلام 1/ 249:"إن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فريضة".
الخاتمة:
وبعد، فإني أحمد الله على توفيقه لإتمام هذا البحث، كما أسأله –تعالى-أن يجعله نافعا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب
أما عن النتائج التي توصلت إليها فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1 - إن تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد تقسيم طرأ بعد القرن الأول
-أعني بعد عصر الصحابة وكبار التابعين- ذلك لأن الصحابة وكبار التابعين لم يكونوا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأحاديث النبوية، وإنما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم بدرجة واحدة.
2 - إن هذا التفريق نشأ عندما ظهرت الفرق-ولاسيما المعتزلة- الذين جعلوا العقل مقدما على القرآن والسنة في معرفة الأشياء والاستدلال، ولما تصادم الاستنتاج العقلي مع النص الشرعي أخذوا يبحثون عن مخرج يبقي للعقل منزلته، فأوحت لهم شياطينهم من الإنس والجن بظنية الأخبار وقطعيتها، ومن ثم القول بظنية الدليل أو قطعيته، ولما كان القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة ما كان أمامهم إلا تأويل الآيات بما يتفق و ما تراه عقولهم، ومن هنا برز عند السلف ما يعرف بالتأويل المقبول والتأويل المردود، أما السنة فإن حائطها أدون عندهم فقالوا إنها ظنية الثبوت باعتبار أنها أخبار بشر يخطئون وينسون، فلا يمكن قبولها في الأمور الاعتقادية؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يبني عقيدته على أمر ظني، فردوا أحاديث الآحاد لذلك وحشدوا لتأييد مذهبهم أدلة من القرآن والسنة حملوها على غير مقاصدها فباؤوا بالخسران، وتصدى لهم علماء أهل السنة والجماعة من السلف والخلف وبينوا بطلان ما ذهبوا إليه.
3 - أن الذين قالوا بعدم حجية حديث الآحاد قد فتحوا الباب على مصراعيه لأعداء الإسلام من المستشرقين وتلاميذهم المستغربين من بني جلدتنا وأهل لغتنا، الذين تلقفوا تلك الأفكار وبنوا عليها شبهاتهم للطعن في السنة ورواتها، ولكن هيهات وأنى لهم ذلك؛ لأن السنة من الذكر الذي أوحى به الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلموقد تكفل الله - سبحانه - بحفظ ذلك الذكر كما قال جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
هذا ما ظهر لي، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(نقلاً من حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام، تأليف: عبد الله عبد الرحمن الشريف، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
¥