تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما القول بأن الإمام أحمد إنما أنكر على الحارث الإثنين معاً أعني تزهده وتقشفه [وقل هنا أو توهماته وتخيلاته!] بالإضافة إلى سلوكه مسلك الكلابية فجوابه من وجوه:

الوجه الأول: طالما أن الكلام ينبغي أن يكون مسنداً صحيحاً كما أشرتم فقصة هجر الإمام أحمد للحارث المحاسبي وتخفيه بعدها إلى أن مات في بيته فلم يصل عليه غير أربعة قصة معلقة أشار الذهبي في الميزان إلى ذلك. وإن عنيتم نصحه للرجل في هذه القصة أو مطلق التحذير من صحبته فهذا لا يدل على خروجه من جملة أهل السنة وإن دل فإنما يدل على وجود مخالفة أو معصية عند الرجل لاتخرج به إلى حد المبتدعة ولاتخرج بنا إلى حد هجره حتى الموت.

الوجه الثاني: لأهل العلم في سبب ما يروى من هجر الإمام أحمد للمحاسبي حتى موته قولان مشهوران:

- الأول: هجره بسبب جنوحه نحو علم الكلام، وهذا ذكره الغزالي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [درء تعارض العقل والنقل 7/ 147] في معرض نقله لكلام أبي حامد: "قال: وبالغ فيه [يعني الإمام أحمد في الحط على من نظر في علم الكلام] حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة، وقال: ويحك اسكت. أتحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ ".

قال حارث الهمام: ولعل الشيخ أبوحامد أخذ ذلك من كلام البيهقي عن سبب الهجر حيث قال كما نقل ابن كثير معلقاً على القصة التي أشرتم إليها: "لأن الحارث بن أسد وإن كان زاهداً فإنه كان عنده شيء من الكلام، وكان أحمد يكره ذلك"، وذلك في تعقيبه على قصة سماع أحمد للحارث وتأثره بما قال عندما دعاه إسحاق السراج وهي التي صححها ابن حجر ونقل تخريج البيهقي الآتي لها في التهذيب إثرها، كما نقله ابن كثير قبله في البداية والنهاية، والوجه الثاني الذي ذكره البيهقي في هذا الخبر في قوله: "أو كره له صحبتهم من أجل أنه لايطيق سلوك طريقتهم وماهم عليه من الزهد الورع"، فلم يجزم بأن سبب نصح أحمد للرجل بعدم سلوك سبيلهم مع إقراره لما رأى من حالهم تأثر المحاسبي بعلم الكلام، ولكنه أمر خاص بذلك الشخص وهو قريب مما اختاره ابن حجر في التهذيب عندما ذكر القصة أعلاه.

o تنبيه: هذه القصة –وهي غير قصة هجره حتى الموت والتي أنقل فيهاالقولين- حملها ابن كثير على وجه مشابه لما كرهه الإمام أبوزرعة فقال متعقباً البيهقي أثناء ترجمته الإمام أحمد: "قلت: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لمّا وقف أبوزرعة الرازي على كتاب الحارث المحاسبي المسمى بالرعاية قال هذا بدعة، ثم قال للرجل الذي حمل جاء بالكتاب عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث ودع عنك هذا فإنه بدعة". ولاشك أن حمل الناس على التقشف وشدة السلوك قسمان قسم ممقوت فيه غلو وهو إيجابه عليهم وتنقصهم بتركه، وقسم محمود إذا اشتغل بالزهد والورع في خاصة نفسه يتحرج به عما اشتبه عليه ولايلزم به أحد من الناس غيره أو يرى فيه نقصاً بتركه، وقد كان ابن عمر –رضي الله عنه- يتورع في مسائل باجتهاده معروفة، وكان غيره من السلف كذلك. فما أنكره الإمام أبوزرعة هو شدة سلوكهم الذي كان (بعضهم) يحمل الناس عليه مع أنه لم يجيء به كتاب، وهذا أنكره على المحاسبي كبار منسوبي التصوف في عصره فضلاً عمن تقدم كما سيأتي بيانه بمشيئة الله، على أن قارئ قصة البرذعي وسؤاله لأبي زرعة [وأصحها ألفاظها ماذكره البرذعي نفسه في سؤالاته لأبي زرعة ص561]، يلحظ مراد أبي زرعة رحمه الله، وهو عدم التساهل أو تسويغ قراءة كتبه وإن كانت في الرقائق خشية أن تجر إلى غيرها، كما أن تأثر المحاسبي بابن كلاب يظهر في سائر كتاباته، فعندما تكون تلك الكتابات مظنة بعد عنها ثم تنطوي على شيء من كلامهم تنطلي على القارئ فكان التحذير منها حسنا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير