فقد رواه البخاري واستدل به في باب الجلوس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن. قال شارحه: أي جلس حزيناً، وعدل إلى قوله: يُعرف، ليدل على أنه صلى الله عليه وسلم كظم الحزن كظماً. وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جِبِلَّة البشرية. وهذا موضع الترجمة، وهو يدل على الإباحة لأن إظهاره يدل عليها. نعم إذا كان معه شيء من اللسان أو اليد حرم. انتهى
وكذلك فعل أبو داود، أما الإمام مسلم فقد استدل به في التشديد في النياحة وأما النسائي ففي النهي عن البكاء على الميت.
والواضح في الحديث يا أخ ظافر أن الرجل الذي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزّه بل جاءه ليخبره ببكاء نساء جعفر عليه فأمره أن ينهاهن عن البكاء. فما وجه الاستدلال؟؟ ثم إنّ كلامنا في مجالس التعزية خاصّة وليس في كل جلوسٍ يجلسه المرء ويمكن أن يُعزّى فيه! فهذا في علمي لم يمنعه أحد.
وأما الأدلة الأخرى التي ساقها الأخ ظافر فهي كما قال: كلها ضعيفة لا تثبت ولا يحتج بها، ومع ذلك فإنه أيضاً تكلّف في تحميلها المعنى الذي يريده وهي لا تحتمله.
ثم ختم الأدلة بقوله: الدليل السادس:
ومما يدل على جواز الاجتماع للتعزية، أن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، بناء على الأصل، والأصل في الأشياء الإباحة، وهذا ظاهر من حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن ... الحديث).
فقول: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك) أنه كان عادة عندهم، ولم أرَ أحداً من العلماء ـ مع بحثي القاصر ـ قال: إن الاجتماع للعزاء عبادة، ومعلوم أن البدع لا تكون في العادات المحضة، إلا إذا اعتقد بها التقرب إلى الله تعالى، وليس لها أصل في الشرع فهذه العادة تصبح بدعة. انتهى
ثم استشهدَ بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله).
وأقول: يا أخ ظافر ألا ترى معي أن كلام شيخ الإسلام واضح في حسم المسألة، لأنه كما تعلم أن مجالس العزاء صارت عند الناس من الواجبات والمستحبّات ولذلك قال العلماء عنها إنها بدعة منكرة.
وكذلك قولك في العادات المحضة، فهل هذه المجالس عادات محضة؟ وأنت الذي قلتَ إن التعزية عبادة وسنة ومقصد، وهذه المجالس وسيلة إليها فكيف تجعلها عادات محضة!!!!!!
فإذا أتاك من يقول إن الاحتفال بالمولد النبوي هو من العادات المحضة وهو مباح، فهل سترضى بذلك؟
ثم إن المباحات ليست بإطلاق، كما قال الإمام الشاطبي:
" إن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة (أي بالنظر إليه في ذاته) وأما بالكل (أي بالنظر فيما يتعلّق به من الأفعال) فهو إما مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك " انتهى
فإذا تجاوزنا معك وقلنا إن الجلوس للعزاء بحد ذاته مباح، ونظرنا فيما يتعلّق به من الأفعال، لوجدنا أنه يتعلّق به الكثير من البدع والمنكرات والتكاليف والإزعاجات والإرهاق والإثقال وتضيع لبعض المصالح كما هو مشاهد وكما أشرتَ إليه في رسالتك، ومن ثمَّ فإنه مطلوب الترك ولم يعد مباحاً. فكيف و في الأصل لم نسلم لك بأنه مباح؟
ثم أسألك يا أخ ظافر لماذا كل هذا التضخيم في كلامك حين تقول:
1ـ فدلت الأحاديث والآثار على أن السلف كانوا لا يرون بأساً في الاجتماع ...
2ـ أما الجلوس للتعزية فقط فهذا لا يُعلم أن أحداً من السلف قال: إنه من النياحة وحده، أو أنه نهي عنه، بل حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ حديث التلبينة ـ الذي استدل به أصحاب القول الأول يرده.
3ـ ومما يدل على اجتماع السلف ما ذكره ابن حجر
4ـ فهذا أبو النضر يذكر أنهم كانوا عند المسعودي وهو يُعزى في ابن له، مما يدل أن السلف كانوا يجتمعون، وليس فيه بأس.
5ـ قلت: أما قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: (التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه) فيُرد على هذا القول بالأدلة والآثار الصحيحة التي استدل بها أصحاب القول الأول. انتهى
والسؤال:
¥