تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقول من قال: إن الابتداء بالنكرة إنما امتنع حيث لا يفيد نحو: رجل في الدنيا ورجل مات ... ونحو ذلك، فإذا أفادت جاز الابتداء بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعد، وأحسن من تقييد ذلك يكون الكلام دعاء، أو في قوة كلام آخر .. وغير ذلك من الضوابط المذكورة، وهذه طريقة إمام النحو سيبويه فإنه في كتابه لم يجعل للابتداء بها ضابطاً ولا حصره بعدد، بل جعل مناط الصحة الفائدة، وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه، وكل من تكلف ضابطاً فإنه ترد عليه ألفاظ خارجة عنه، فأما أن يتمحل لردها إلى ذلك الضابط وإما أن يفردها بضوابط آخر حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطاً، وربما زاد غيره عليها، وكل هذا تكلف لا حاجة إليه، واسترحت من شر أهر ذا ناب ... وبابه.

*قاعدة جامعة في الابتداء:

فإن قلت: فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم في ذلك؟

قلت: اسمع الآن قاعدة جامعة في هذا الباب لا يكاد يشذ عنها شيء منه.

أصل المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً بضرب من ضروب التخصيص بوجه تحصل الفائدة من الإخبار عنه، فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها فلا يخبر عنه إلا أن يكون الخبر مجروراً مفيداً معرفة مقدماً عليه بهذه الشروط الأربعة، لأنه إذا تقدم وكان معرفة صار كان الحديث عنه، وكأن المبتدأ المؤخر خبر عنه.

ومثال ذلك إذا قلت: (على زيد دين) فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك: زيد مديان أو مدين، فمحط الفائدة هو الدين، وهو المستفاد من الإخبار، فلا تنحبس في قيود الأوضاع. وتقول: على زيد جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ؟ فأنت تراه هو المخبر عنه في الحقيقة، وليس المقصود الإخبار عن الدين، بل عن زيد بأنه مديان، وإن كثف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر، وإن لم يكن الخبر مفيداً لم تفد المسألة شيئاً وكان لا فرق بين تقديم الخبر وتأخيره، كما إذا قلت: (في الدنيا رجل) كان في عدم الفائدة، بمنزلة قولك: (رجل في الدنيا) فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديم ولا تأخير، وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد.

ومثل هذا قولك: (في الدار امرأة) فإنه كلام مفيد، لأنه بمنزلة قولك: (الدار فيها امرأة) فأخبرت عن الدار بحصول المرأة فيها في اللفظ والمعنى، فإنك لم ترد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار، ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المخبر عنه أولاً، ثم أسندت إليه الخبر. وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة، وأنها اشثملت على امرأة فهذا القدر هو الذي حسن الإخبار عن النكرة ههنا فإنها ليست خبراً في الحقيقة. وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدمة فهذا حقيقة الكلام، وأما تقديره الإعرابي النحوي فهو أن المجرور خبر مقدم، والنكرة مرفوعة بالإبتداء.

*يشترط للابتداء بالنكرة أن تكون موصوفة:

فإن قلت: فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ؟ فلا تقول: (امرأة في الدار ودين على زيد).

قلت: لأن النكرة تطلب الوصف طلباً حثيثاً فيسبق الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصف لها. فيبقى الذهن متطلعاً إلى ورود الخبر عليه وقد سبق إلى سمعه. ولكن لم يتيقن أنه الخبر بل يجوز أن يكون وصفاً فلا تحصل به الفائدة بل يبقى في ألم الانتظار للخبر والترقب له. فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفاً لها، لأنه لا يتقدم موصوفه فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدم هو الخبر والحديث عن النكرة وهو محط الفائدة.

إذا عرفت هذا فمن التخصيصات المسوغة للابتداء بها، أن تكون موصوفة نحو: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك} [البقرة: 221]، أو عامة نحو: (ما أحد خير من رسول الله) و (هل أحد عندك)؟

ومن ذلك أن تقع في سياق التفضيل نحو قول عمر: (تمرة خير من جرادة) فإن التفضيل نوع من التخصيص بالعموم. إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس. بل المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة إيذاناً بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد من أفراد الجنس.

ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوف} [محمد: 21]، فإنه قدره طاعة أمثل وقول معروف أشبه وأجدر بكم وهذا أحسن من قول بعضهم: أن المسوغ للابتداء بها هاهنا العطف عليها، لأن المعطوف عليها موصوف فيصح الابتداء به.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير