وقد بسطنا هذا في كتاب (الفتح المكي) وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك، وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب، ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية، وإن لم يكن من غرضنا، فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده، فلنرجع إلى المقصود فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في: سلام عليكم، إن المسلم لما كان داعياً، وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به، وينزل منزلة قولك: أسأل الله سلاماً عليكم، وأطلب من الله سلاماً عليك، فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك، ألا ترى أنك لو قلت: أسأل الله عليك سلاماً لم يجز وهذا في قوته ومعناه ... فتأمله فإنه بديع جداً.
فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوباً مثل، سقياً ورعياً لأنه في معنى: سقاك الله سقياً ورعاك رعياً.
قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم، وسلام ضيفه إن شاء الله.
وأيضاً فالذي حسن الابتداء بالنكرة هاهنا أنها في حكم الموصوفة، لأن المسلم إذا قال: سلام عليكم، فإنما مراده سلام مني عليك، كما قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود: 48].
ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه، لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف، فقد عرفت جواب السؤالين لما ابتدئ بالنكرة، ولم قدمت على الخبر بخلاف الباب في مثل ذلك .... والله أعلم.
فصل: تقديم السلام في جانب المسلم
وأما السؤال السابع وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام، وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه؟
فالجواب عنه: إن في ذلك فوائد عديدة:
أحدها: الفرق بين الرد والإبتداء: فإنه لو قال له في الرد: السلام عليكم، أو سلام عليكم، لم يعرف أهذا رد لسلامه عليه؟ أم إبتداء تحية منه؟ فإذا قال: عليك السلام، عرف أنه قد رد عليه تحيته، ومطلوب المسلم من المسلم عليه أن يرد عليه سلامه، ليس مقصوده أن يبدأه بسلام كما ابتدأه به، ولهذا السر _والله أعلم_ نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عليه بقوله: عليك السلام عن ذلك فقال: ، وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه.
أفلا ترى كيف نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ابتداء السلام بصيغة الرد التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام وليس في قوله: ، ما يدل على أن المشروع في تحيات الموتى، كذلك كما سنذكره، وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرق بين سلام المبتدئ وسلام الراد، خصوا المبتدأ بتقديم السلام، لأنه هو المقصود، وخصوا الراد بتقديم الجار والمجرور .....
الفائدة الثانية: وهي أن سلام الراد يجري مجرى الجواب، ولهذا يكتفي فيه بالكلمة المفردة الدالة على أختها، فلو قال: وعليك، لكان متضمناً للرد كما هو المشروع في الرد على أهل الكتاب مع أنا مأمورون أن نرد على من حيانا بتحية مثل تحيته. وهذا من باب العدل الواجب لكل أحد فدل على أن قول الراد، وعليك مماثل لقول المسلم سلام عليك. لكن اعتمد في حق المسلم إعادة اللفظ الأول بعينه تحقيقاً للماثلة، ودفعاً لتوهم المسلم عدم رده عليه لاحتمال أن يريد عليك شيء آخر.
وأما أهل الكتاب فلما كانوا يحرفون السلام ولا يعدلون فيه، وربما سلموا سلاماً صحيحاً غير محرف ويشتبه الأمر في ذلك على الراد ندب إلى اللفظ المفرد المتضمن لرده عليهم نظير ما قالوه. ولم تشرع له الجملة التامة، لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا، ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل الإسلام. ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم لأجل تحريف الكافر له، وإما أن يرد سلاماً صحيحاً غير محرف مع كون المسلم محرفاً للسلام فلا يستحق الرد الصحيح. فكان العدول إلى المفرد وهو عليك هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله.
فتأمل هذه الفائدة البديعة. والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك: وعليك وإنما كمل تكميلاً للعدل وقطعاً للتوهم.
الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدم أن المسلم لما تضمن سلامة الدعاء للمسلم عليه بوقوع السلامة عليه، وحلولها عليه. وكان الرد متضمناً لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به. فإنه إذا قال: وعليك السلام كان معناه وعليك من ذلك مثل ما طلبت لي.
¥