كما إذا قال: غفر الله لك، فإنك تقول له: ولك يغفر، ويكون هذا أحسن من قولك: وغفر لك، وكذا إذا قال: رحمة الله عليك، تقول: وعليك وإذا قال: عفا الله عنك. تقول: وعنك، وكذلك نظائره لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعو له للداعي في ذلك الدعاء لا إلى إنشاء دعاء مثل ما دعا به فكأنه قال: ولك أيضاً، وعنك أيضاً. أي وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه لا أنفرد به عنك، ولا اختص به دونك، ولا ريب أن هذا المعنى يستدعي تقديم المشارك المساوي ... فتأمله.
ابتداء السلام بالنكرة والجواب بالمعرفة
وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة؟ وجوابه بلفظ المعرفة؟ فتقول: سلام عليكم فيقول الراد: وعليك السلام، فهذا سؤال يتضمن لمسألتين: إحداهما هذه والثانية اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها، والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام.
وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب، إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول: ويل له، ومن الثاني: خيبة له وجدعاً وعقراً وترباً وجندلاً هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له: سقياً ورعياً وكرامة ومسرة، فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة، كما جاء سائر ألفاظ الدعاء.
وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا ترى أن سقياً ورعياً وخيبة، جرى مجرى سقاك الله ورعاك ... وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه، كالبدل منه نكرة مثله، وأما تعريف السلام في جانب الراد فنذكر أيضاً أصلاً يعرف به سره وحكمته، وهو أن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربعة فوائد:
إحداها: الإشعار بذكر الله تعالى، لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره.
الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلم عليه، لأنك متى ذكرت اسماً من أسمائه فقد تعرضت به، وتوسلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم.
الفائدة الثالثة: إن الألف واللام يلحقها معنى العموم في مصحوبها والشمول فيه في بعض المواضع.
الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول: ناولني الكتاب واسقني الماء وأعطني الثوب لما هو حاضر بين يديك. فإنك تستغني بها عن قولك هذا فهي مؤدية معنى الإشارة.
وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع:
فقول الراد: وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل ما ابتدئ به وهو هو بعينه، فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك، وواقع عليك، فلو أتى بالرد منكراً لم يكن فيه إشعار بذلك، لأن المعرف وأن تعدد ذكره واتحد لفظه، فهو شيء واحد بخلاف المنكر.
ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه أشار إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراًً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5، 6]، فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد، واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران، فالعسر محفوف بيسربن يسر قبله ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين.
وفائدة ثانية: وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة: (مقام فضل. ومقام عدل. ومقام ظلم)، فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته، والعدل أن ترد عليه نظيرها، والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها، فاختير للراد أكمل اللفظين، وهو المعرف بالأداة التي تكون للاستغراق والعموم كثيراً ليتمكن من الإتيان بمقام الفضل.
وفائدة ثالثة: وهي أنه قد تقدم أن المناسب في حقه تقديم المسلم عليه على السلام، فلو نكره وقال: عليك سلام، لصار بمنزلة قولك: عليك دين، وفي الدار رجل، فخرجه فخرج الخبر المحض، وإذا صار خبراً بطل معنى التحية، لأن معناها الدعاء والطلب، فليس بمسلم من قال: عليك سلام، إنما المسلم من قال: سلام عليك، فعرف سلام الراد باللام إشعاراً بالدعاء للمخاطب وإنه راد عليه التحية، طالب له السلامة من اسم السلام ... والله أعلم.
فصل: ابتداء السلام في المكاتبة
وأما السؤال التاسع: وهو ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة، واختتامها بالمعرفة، فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء، فإن المكاتبة قائمة مقام النطق، وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد:
¥