وجه الدلالة:
دل هذا الأثر على جواز دخول الجنب المسجد، وأن الجنابة تخفف بالوضوء فيخف بعض حدثه بالوضوء ().
المناقشة والترجيح:
بعد النظر في أدلة أصحاب هذه الأقوال تبين لي أنما استدل به أصحاب القول الأول لا ينتهض للإحتجاج: لأن الآية التي استدلوا بها وهي قوله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ ? (النساء: من الآية43).
وقد اختلف السلف في المراد بها على قولين:
الأول: أن المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتتيمموا وتصلوا، وهذا المعنى مروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج ().
والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين ولا تقعدوا وهذا المعنى مروى عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس رضي الله عنهم، والحسن وسعيد بن المسيب، وعكرمة وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى وأحمد والشافعي وابن قتيبة، فعلى القول الأول عابر السبيل المسافر وقربان الصلاة فعلها وعلى الثاني عابر السبيل المجتاز في المسجد وقربان الصلاة دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة ().
قلت: سياق الآية يقوي ما ذهب إليه أصحاب القول الأول الذين قالوا: بأن المراد بها المسافرون الذين لم يجدوا الماء أنهم يتيممون ويصلون، ولا علاقة لها بمكان الصلاة، لأن الأرض لا تنجس بممر الجنب ولا الحائض، ولا المشرك.
قال الشافعي: ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام فإن الله عز وجل يقول إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا ينبغي لمشرك أن يدخل الحرم بحال قال: وإذا بات المشرك في المساجد غير المسجد الحرام فكذلك المسلم فإن ابن عمر يروي أنه كان يبيت في المسجد زمان رسول الله ? وهو أعزب، ومساكين الصفة قال: ولا تنجس الأرض بممر حائض ولا جنب ولا مشرك ولا ميتته لأنه ليس في الأحياء من الآدميين نجاسة وأكره للحائض تمر في المسجد وإن مرت به لم تنجسه ().
قال النووي: وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بحديث المسلم لا ينجس بأنه لا يلزم من عدم نجاسته جواز لبثه في المسجد، وأما القياس على المشرك فجوابه من وجهين أحدهما أن الشرع فرق بينهما فقام دليل تحريم مكث الجنب وثبت أن النبي ? حبس بعض المشركين في المسجد فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية، والثاني أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد فلا يكلف بها بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا ().
قلت: ولا شك أن المشرك نجس قذر، سواء قلنا إنه مكلف بالشرع أو غير مكلف، أو أنه لا يعتقد حرمة المسجد، وهل العلة في نهي الجنب والحائض عن اللبث في المسجد إن صح: اعتقاد حرمة المسجد، أم النجاسة؟.
لا شك أن قوله ? لعائشة (إن حيضتك ليست في يدك) يدل على أن المنهي عنه هو تلويث المسجد بالنجاسة العينية لا الحكمية، فالمشرك نجس بنص القرآن سواء قلنا نجاسة حسية أو معنوية، فإذا جاز له اللبث في المسجد كما هو نص حديث ثمامة بن آثال السابق حين ربطه النبي ? في سارية من سوار المسجد، فجوازه للمسلم الجنب، أو المرأة الحائض من باب أولى إن لم يمنعه نص من ذلك، لأن المسلم لا ينجس بحال من الأحوال كما ثبت ذلك عن النبي ? من حديث أبي هريرة ? السابق، وأما الأحاديث التي استدلوا بها فالصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح، كحديث عائشة، وأم سلمة صريحين غير صحيحين، كما سبق ذلك في تخريجهما، وأما حديث أم عطية المتفق عليه غير صريح وفي لفظ لمسلم وغيره: " فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال" لتلبسها أختها من جلبابها" ().
¥