تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأول ما يقابلنا في أركان هذه الصورة هو اتِّفاق المسلمين جميعًا قديمًا وحديثًا على ستر المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب عنها، مهما كان الخلاف الفقهي المتوارث لدى المسلمين ما بين وجوب النقاب أو استحبابه، فهذا الخلاف الفقهي بين الوجوب والاستحباب لم يتجاوز حدَّ الخلاف الفقهي على الثواب والعقاب المترتِّبِ، ولم ينتقل هذا الخلاف إلى الشارع فيصبح ظاهرةً عامة، وبعبارةٍ أخرى فإِنَّ اختيار فريقٍ مِن أهل العلم لاستحباب النِّقاب لم يترتَّب عليه أنْ يصبح كشف الوجه ظاهرةً عامةً في الأمة على مدار تاريخها مثلًا، وإِنَّما جَرَتْ عادة النساء على ستْر الوجه، بغض النظر عن الحكم الشرعي الذي يتبناه هذا العالم أو ذاك، ما بين وجوبٍ أو استحبابٍ.

وقد نقل إمام الحرمين الجويني اتفاقَ المسلمين على منع النساء من الخروج كاشفات الوجوه؛ وذكر عددٌ مِن أهل العلم ذلك نقلا عن الجويني ولم يتعقَّبه بشيءٍ.

فعلى سبيل المثال يقول الإمام تقي الدين الحصني: "ثم إن النظر قد لا تدعو إليه الحاجة (10)؛ وقد تدعو إليه الحاجة؛ الضرب الأول: أنْ لا تمسّ إليه الحاجة؛ فحينئذ يحرُم نظر الرجل إلى عورة المرأة الأجنبية مطلقًا، وكذا يحرُم إلى وجهها وكفَّيْها إِنْ خاف فتنة، فإِنْ لَمْ يخفْ ففيه خلافٌ؛ الصحيح: التحريم؛ قاله الاصطخري، وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحق الشيرازي، والروياني، ووَجَّهَهُ الإمامُ (11) باتِّفاق المسلمين على منع النساء مِن الخروج حاسِرَاتٍ سَافِرَاتٍ (12) وبأنَّ النظر مظنّة الفتنة وهو محرِّك الشهوة فالأليق بمحاسن الشرع سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كما تحرُم الخلوة بالأجنبية. ويحتجّ له بعموم قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وهل للمراهق النظر؟ وجهان؛ أصحهما أنَّ نَظَرَهُ كنظرِ البالغ؛ لظهوره فيه على عورات النساء، فعلى هذا المعنى أنه كالبالغ، ويجب على المرأة أَنْ تحتجبَ عنه، كما أَنَّه أيضًا يلزمها الاحتجاب مِن المجنون قطعًا، ويلزم الولي أَنْ يمنعه مِن النظر كما يلزمه أنْ يمنعه مِن الزنا وسائر المحرّمات" أهـ (13).

ويقول الإمامُ ابنُ حجرٍ العسقلاني: "ولَمْ تَزَلْ عادة النساء قديمًا وحديثًا يَسْتُرْنَ وجوههنَّ عن الأجانب" أهـ (14).

وقال الإمام ابن حجر في موضعٍ آخر: "قوله (15): (باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم مِن غير رِيبةٍ): وظاهر الترجمة أَنَّ المصنِّف (16) كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة مشهورة"؛ إلى أَنْ قال ابن حجر: "ويقوِّي الجواز: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز فقال: لسنا نقول أنَّ وجه الرجل في حقّها عورة كوجه المرأة في حقّه بل هو كوجه الأمرد في حقّ الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإنْ لم تكن فتنة فلا إِذْ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات (17) فلو استووا لأُمِرَ الرجال بالتنقّب أو مُنِعْنَ (18) مِن الخروج" انتهى (19).

ونقل الشوكاني وغيره عن ابن رسلان قوله بـ: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه؛ لا سيما عند كثرة الفُسَّاق" أهـ (20).

وهذه الأقوال وما يجري مجراها يدل على استمرار عمل المسلمين بالنقاب، وخروج النساء منتقبات، ومنعهنَّ مِن الخروج كاشفات الوجوه، بغض النظر عن الاختيار الفقهي الخاص بوجه المرأة، وهل هو مِن العورة أم لا؟ وهل يجب عليها تغطيته أم يستحب لها ذلك؟ فهذا الخلاف الفقهي ظلَّ محصورًا في نطاق الآراء، ولم ينتقل إلى عملٍ.

وهذه العادة المضطردة للمسلمين على مَرِّ الزمان لا يجوز لأحدٍ خرقها، خاصةً بعد الفساد الذي حَلَّ بالناس في هذه الأزمان، ولو لم تدل النصوص الشرعية على العمل بالنقاب لكان مشروعًا بناء على العُرف والعادة الجارية المستمرة، والقاعدة في ذلك أَنَّ "العادة مُحَكَّمة" (21)، وما كان الله عز وجل ليجمع المسلمين عبر هذه الأزمان المتتالية على ضلالةٍ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير