تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(أتحدث باعتباري مجنوناً أكثر من أي شخص آخر)؛ فلما عجز طموحه الأرعن عن مشاركة الله في علمه - تقدس ربي، وله الحمد بالكمال المطلق - عدَّ نفسه مجنوناً؛ لأن المجنون لا يعرف بعض الظواهر التي يلمسها .. ورسائل هذا القديس عُرفت بالكرونتية أوَّل بها بعقله القاصر مأثوره الديني تأويلاً لم يرتضه أهل الدين أنفسهم .. وما دام العقل عندهم لا يعرف المعرفة التي يطمحون إليها وجب عندهم تعطيل العقل، وأن يكون البديل هو (اللامعقول)، وهذا اللامعقول تمجيد لجهود العقل الذي لم يعرف المعرفة التي يطمح إليها؛ ولهذا قالوا: (لا وجود لذهن كبير لا يمتزج معه الجنون)!! .. وهذه الظاهرة عند مَن نسميهم العقلاء هي المصدر لكل فلسفات (اللامعقول)، و (آداب اللامعقول) .. إنهم يقرؤون الفحش والرذائل منسوبة إلى المصطفين الأخيار من الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فكيف لا يعتور عقولهم التناقض في أخبار وأحكام دينهم؟! .. ويرون نسبة النقص إلى الرب الجليل ذي الكمال المطلق فكيف يثقون بعدله ورحمته؟!.

وعقيدة المسلمين وشريعتهم تقوم على أنهم على دين صحيح شاهد لما بين يديه من الأديان السابقة قبل أن يتلاعب بصفائها مَن استُحفِظوا كتاب الله فضيَّعوه، ولو نشأ العلم المادي بين أمتنا لكان الدين في سلام مع العلم والعقل؛ وإنما قد يعارض ذي علم غير متمكِّن في فنه كما نسب بعض مطاوعتنا بعض المنجزات العلمية إلى السحر، ولكن الأمر سيستقر بالإجماع الجزئي للعلماء الربانيين المجتهدين الذين فقهوا دينهم الصحيح، وعلموا أن العقل مخلوق يتربى بالتعليم والتعلم، ثم يتوقف: إما بِهِجِّيرَى أرذل العمر، وإما بانتهاء الأجل .. ويعلمون أن المغيب يُعرف وجوده بأثره ووصفه الصادر عن تواتر أو خبر معصوم، ولا ينسبون إلى الدين إلا بعد التمحيص الثبوتي والدلالي .. ولا سبيل إلى العلم بالمغيَّب علم تحديد وتقدير، وهذا علم تجريبي؛ لأن ما عرفنا وجوده بالوصف بالتواتر (والتواتر تجريبي) لا نعرف منه إلا ما دلَّ عليه الوصف؛ فإذا شاهدناه عرفناه كيفية وتحديداً بأكثر من دلالة الوصف وإن كان الوصف مطابقاً، وكل مجهول أصبح معلوماً إنما انطلقنا إليه بدلالة من علم لنا مُسْبق شهدناه بالحسِّ، وبراهين الله الكونية في الآفاق والأنفس، وهي كافية في الإيمان بالمغيَّب على الوصف الشرعي .. ومع الوصف الشرعي نعلم وجود ربنا بصفة الوحدانية بالكمال المطلق والتقدُّس المطلق من آثار صنعه عظمة ولطفاً وقدرة وواحديةَ قصدٍ وتدبير؛ ومن ههنا يحصل الاصطفاء والعصمة لمن ثبت بالبرهان أنه رسول من ربه، ومن ههنا ثبتتْ العصمة للشرع في أحكامه وأخباره .. كل هذا ببراهين العقل التي وعاها من المشاهدة بالتفصيل؛ فلا دور للعقل بعد ذلك إلا التمسُّك بالإيمان المُسبق؛ لأن العقل رياضيُّ الترتيب، ثم التمحيص الثبوتي والدلالي للشرع، ودقة الفهم والتمييز .. وما جعله الشرع لمواهب البشر في عقولهم ومهاراتهم لعمارة الأرض، وتنظيم الوقائع المستجدة التي لم يرد بها شرع لا بالنص على الاسم ولا بالنص على المعنى .. وكذلك المحاولة لاكتشاف ما يمكن اكتشافه من قوانين الكون، وكذلك اختراع وصُنْع ما ينفع الناس: فالشرع يبارك ذلك ولا يمنع منه؛ وإنما يمنع الشرع مما هو مُحرَّم ضار من أجل استمتاع مؤقت، ويتدخل في توظيف ما أنجزه العقل والمهارة من اكتشاف وصنع لما يرضي الله ويسعد الإنسان في دنياه وآخرته؛ فلا يبيح من الصنع للمتعة إلا ما كان متعة مباحة، ويمنع من استخدام مصنوعات الدمار في حرب تتعدى سياسة الحرب الرحيمة التي شرعها الله لعباده؛ فما بالك بتدبير القنبلة التي يتعدى ضررها غير المعتدي، وما بالك بالإشعاعات النووية التي يتبرأ منها القوي ويُهلِك بها الضعيف؟! .. وتغيير الفطرة مما جعل الله للبشر القدرة عليه لا يرضاه الله، وأعظم تغيير للفطرة ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس .. وهداية العقل الذي خلقه الله، وهداية الشرع الذي نزَّله الله أن يتلاءم الإنسان مع فطرته ولا يحيف عليها .. والأرض مِنَّةٌ علينا من خالقها ربنا سبحانه ننتفع بها، ولكن ليس ذلك على الإباحة المطلقة؛ فلا نأكل منها ما يَقْتُل أو يُمرض، ومباح للفرد ما أحياه من الأرض ولكن بشرط أن لا يكون مسبوقاً بحق عام أو خاص؛ إذْ ليس لِعِرْق ظالم حق، وبشرط أن لا يفتات على إمامٍ مسلم جعل الله من أمور ولايته تنظيم الإحياء بالعدل، وفي النهاية فالعقل المسلم مُعافى؛ لأنه يعلم أنه مخلوق مرهون بأجله؛ فلا يطمح إلى تكييف وتحديد ما هو مغيَّب عنه مدى عمره، وهو يعلم أن الله جعل له من إدراك العقل الكفاية للمعيشة وعمارة الأرض، والكفاية لعبادة الله عن بصيرة، وإلى لقاء، والله المستعان.

وكتبه لكم:

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

ـ عفا الله عنه ـ

الجزيرة: الأحد 09 ذو القعدة 1431 العدد 13898

http://www.al-jazirah.com.sa/20101017/ar1d.htm

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير