هل للقرآن الكريم أكثر من تنزُّل؟؟.
لكي يتبين لنا هذا الأمر تبيناً تاماً ينبغي أن نقف أمام هذه الآيات الكريمة:
1 - قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (سورة البقرة/ 185).
2 - قال سبحانه (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ... ) (سورة الدخان/ 1 - 3).
3 - قال سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر).
هذه الآيات الكريمة تبين أن القرآن الكريم أنزل في رمضان، وأنه أنزل في ليلة مباركة، وأن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر.
ولكن ما معنى نزول القرآن في ليلة القدر؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأولى: ذهب بعض العلماء إلى أن القرآن الكريم نزل كلُّه دفعة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا.
ثم نزل من سماء الدنيا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم منجماً في بضع وعشرين سنة. وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بآثار موقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الأحاديث المرفوعة التي لم تصح.
القول الثاني: إن هناك تنزلاً واحداً للقرآن الكريم، وهو نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، في شهر رمضان، ولكن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي الآيات الأولى من سورة اقرأ، فكيف تفسر قوله؟ قالوا إن الأمور العظيمة والشؤون الخطيرة يؤرخ دائماً ببدئها فمعنى قوله سبحانه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) أي الذي ابتُدِئَ فيه نزول القرآن عليك أيها النبي.
وكذلك يقال في قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) و (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) أي ابتدأنا إنزاله.
القول الثالث: يجمع العلماء على أن القرآن الكريم كما يطلق على القرآن كله فإنه يطلق على الآية والآيتين، وعلى هذا المعنى قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) أي أنزلنا الآيات الأولى وهي الآيات الخمس من سورة العلق.
الموازنة بين هذه الأقوال:
ونحن إذ نوازن بين هذه الأقوال يبدو لنا والله أعلم بالصواب أننا نختار القولين الأخيرين فهما متقاربان بل يكادان يكونان قولاً واحداً. فإن ابتداء الإنزال في الشهر الكريم والليلة المباركة معناه أنزل الآيات وإنما اخترت هذا القول لما يلي:
أولاً: لأن القول بأن القرآن الكريم أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلمّ، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه.
ثانياً: يلزم على القول الأول وهو أن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا.
وهذا غير مُسلم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان.
ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي عليه وآله الصلاة والسلام، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى (هدى للناس) إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أن القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس.
رابعاً: إن الله تبارك وتعالى يمّن علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا رحمه الله:
¥