2 - أما قولك: (ما يرد من فهم أهل البدع فلا ينزل على الألفاظ التي تروى عن السلف بل يفصل مراد السلف إذا أورد عليه إيرادات باطلة) فصحيح لا غبار فيه كما قد بين العلماء مراد السلف بنفي "التشبيه" عند الكلام عن صفات الله - مع أننا لا ننفي مطلق التشبيه بين صفاته وصفات خلقه، وإنما المنفي "التشبيه المطلق" الذي هو "التمثيل". وأنا ليس في كلامي تنزيل فهم أهل البدع على ألفاظ السلف، إنما في كلامي احترازٌ و منعٌ من إطلاقات جديدة لم ترد عن السلف مُفْضِية إلى البدع أو الالتباس.
3 - وأما قولك أخي الكريم: ( ... وإلا لزم من هذا أن كل لفظة وردت عن السلف لا نطلقها إلا وهي محاطة بالقيود والتحفظات التي يوردها أهل البدع بل ينجر الأمر بعد ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة) فليس ذلك بلازم لكلامي. فإن العلماء نصبوا قيودا وتحفظات على "إطلاق نفي التشبيه" مع أنه وارد عن السلف بلا ريب. فهي قضية معينة لا تعميم فيها ولا إلزام. فـ"القيود والتحفظات" إنما نذكرها في ألفاظ هي موضع الإيهام والالتباش (أى: "مفردات" و "متشابهات"). أما "المحكمات" و"المشهورات"، فلا داعي لوضع القيود لها ولا تحفظات - إلا بقصد التبحّر وزيادة البيان.
4 - وأما قولك الأخير: (وينبغي ان يفرق بين الإطلاق على سبيل التأصيل والتقعيد لمنهج أهل السنة والجماعة، وبين الإطلاق في مقام الرد على الخصوم، وكتب أهل السنة في النوعين مشهورة معروفة) فكلام جميل مستقيم! وهو بعينه ما أريد الدعوة إليه في هذه القضية. فإن البخاري إنما أطلق القول بأن "القرآن صفة من صفات الله" في معرض الرد على من لا يسمي الله وصفاته "شيئًا". وما رواه حنبل عن الإمام أحمد في إطلاق هذا الكلام هو أيضا في معرض الرد والاحتجاج على من قال بخلق القرآن بناء على نفي التشبيه. وكذلك كلام شيخ الإسلام الذي نقلته في الرقم الثاني، هو أيضا في معرض الرد على من أنكر التفاضل في القرآن، وليس في معرض "التأصيل والتقعيد لمنهج أهل السنة والجماعة" مع كثرة ما كتبه في التأصيل والتقعيد.
5 - خلاصة الكلام: إن إطلاق القول بأن "القرآن صفة من صفات الله تعالى" جائز إذا احتيح إلى ذلك أو مع شيئ من القيود والتحفظات. وأنقل هنا كلام شيج الإسلام ابن تيمية - ذلك النحرير المدقق:
فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة وهو القول بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. أما كونه لا يفضل بعضه على بعض فهذا القول لم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمة السنة الذين كانوا أئمة المحنة كأحمد بن حنبل وأمثاله ولا عن أحد قبلهم ولو قدر أنه نقل عن عدد من أئمة السنة لم يجز أن يجعل ذلك إجماعا منهم فكيف إذا لم ينقل عن أحد منهم وإنما هذا نقل لما يظنه الناقل لازما لمذهبهم. فلما كان مذهب أهل السنة أن القرآن من صفات الله لا من مخلوقات الله وظن هذا الناقل أن التفاضل يمتنع في صفات الخالق نقل امتناع التفاضل عنهم بناء على هذا التلازم. ولكن يقال له: أما المقدمة الأولى فمنقولة عنهم بلا ريب. وأما المقدمة الثانية وهي أن صفات الرب لا تتفاضل فهل يمكنك أن تنقل عن أحد من السلف قولا بذلك فضلا عن أن تنقل إجماعهم على ذلك ما علمت أحدا يمكنه أن يثبت عن أحد من السلف أنه قال ما يدل على هذا المعنى لا بهذا اللفظ ولا بغيره فضلا عن أن يكون هذا إجماعا. ولكن إن كان قال قائل ذلك ولم يبلغنا قوله فالله أعلم.
فهو رحمه الله عندما قرر المبادئ يقول بأن القول المعروف عند أهل السنة هو "أن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق" ولم يستعمل عبارة "إن القرآن صفة الله" مع أشددها استلزاما لعدم المخلوقية (فإن التعبير عن "القرآن" بأنه "صفة الخالق" أدل إلى أنه "غير مخلوق" من مجرد التعبير عنه بأنه "كلام الخالق"). ومع ذلك، لم يستعمل شيخ الإسلام هذه العبارة في مثل هذا المقام التأصيلي.
وهو عندما أقر بأن القرآن "من صفات الله" - بناء على كلام أبي عبد الله بن الدراج المنقود بعضه - لم يقر به إقرارا قويا مطلقا من غير تقييد أو بيان. وإنما قال: (فلما كان مذهب أهل السنة أن القرآن من صفات الله لا من مخلوقات الله). فهو قيده هذا الإطلاق بقوله "لا من مخلوقات الله" ليكون التركيز على "عدم المخلوقية" لا على "قيام هذه الصفة بذات الله". ثم في تقريره الثاني إنما يقول: (أما المقدمة الأولى فمنقولة عنهم بلا ريب) ولم يقل مثلاً: (فهو حق) أو (فهو معروف عنهم). فانظر الدقه - بارك الله فيك - وجزى الله ابن تيمية خير الجزاء.
الأمر الرابع: نعم أخي قد تكلم أهل العلم في تفردات حنبل عن أحمد:
- قال ابن رجب رحمه الله في فتح الباري (2/ 367) (وهذه رواية مشكلة جداً، ولم يروها عن أحمد غير حنبل، وهو ثقة إلا أنه يهم أحيانا، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد: هل تثبت به رواية أم لا)
- وقال الذهبي في السير (13/ 52): (له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب)
وينظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى عن رواية حنبل عن أحمد في صفة المجيء لله تبارك وتعالى (16/ 405)
فلذلك لا نجعل هذه الرواية عمدة في القضية - فضلاٍ عن فتح الاستلزامات بناء عليها.
وأخيرا أقول كما قال شيخ الإسلام: (ولكن إن كان قال قائل -من أئمة السلف- ذلك -أقصد: تلك الإطلاقات التي حذّرت منها- ولم يبلغنا قوله، فالله أعلم!).
هذا ما لزم بيانه. ولا تظنن أخي الكريم أن هذا "ردٌّ" عليك. وإنما هو "شيء من الملاحظة".
وشكر الشكور مشاركتك الشيّقة، والحمد لله في الأولى والآخرة.
¥