تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا لي: كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]، وهذا استفهام إنكار بَين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار؛ إما بمعني النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعني الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا.

ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر: 83: 84]. بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ)، وروي: (ما لم يعاين).

وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًا كان يخدمه فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)، ثم قال لأصحابه: (آووا أخاكم).

ومما يبين أن المغفرة العامة في [الزمر] هي للتائبين أنه قال في سورة [النساء]: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116]، فقيد المغفرة بما دون الشرك وعلقها على المشيئة، وهناك أطلق وعمم، فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب؛ ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة، خلافًا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة، حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقًا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائرمن يعذب، وأنه لا يبقي في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

النوع الثاني: من المغفرة العامة التي دل عليها قوله: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا) المغفرة بمعني تخفيف العذاب، أو بمعني تأخيره إلى أجل مسمي، وهذا عام مطلقًا؛ ولهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب ـ مع موته على الشرك ـ فنقل من غمرة من نار، حتى جعل في ضَحْضَاحٍ من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه. قال: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وعلى هذا المعني دل قوله سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عليها مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61]، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشوري: 30].

فصل

وأما قوله عز وجل: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال: (إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، فلست إذا أخصكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير