ولكن يَرِدُ على هذا الكلام ما تفضلتَ أنت بإيراده سابقا، وهو أنه إن كان قد وقع إجماعهم فكيف لم ينقل لنا ولو أثر واحد عن الصحابة والتابعين فيه تصريح بهذا الأمر؟!!
والجواب من وجهين: مجمل ومفصل:
فأما الجواب المجمل، فهو أن أن مثل هذا الإيراد مجرد استشكال ظني، لا يفيد الطعن في الأدلة العقلية البرهانية، فغايته أن يكون إشكالا يحتاج إلى جواب مع القطع بأنه باطل، ولا يلزم من عدم معرفتي الجواب بطلان حجتي؛ لأن دليلي أظهر في العقل وأبين من هذه الشبهة.
وأما الجواب المفصل، فهو أنهم لم يحتاجوا إلى ذكر ذلك أصلا، كما لم يُحتج إلى ذكره القرآن، فالقرآن لم يصرح بالتثنية في العينين، ولم يكن هذا دليلا على نفي العينين، فلو كان ترك تصريح الصحابة والتابعين حجة على كلامك، لكان ترك تصريح القرآن بذلك حجة أبلغ منها، وأنت لم تحتج بها لأنها باطلة، فإذا كانت باطلة بطل ما هو دونها بقياس جلي.
وعند استقراء صنيع أهل العلم في حكاية الإجماع تجدهم أحيانا يكتفون بنقله عن إيراد الآثار المؤيدة له لعدم وجود الخلاف أصلا، ولذلك تجدهم يكثرون من إيراد الآثار الدالة على المسائل التي وقع فيها الخلاف، ولا يكثرون من إيراد الآثار الدالة على المسائل التي لم يقع فيها خلاف، وأظنك لو تتبعت الكتب التي تُعنى بآثار السلف لوجدت هذا جليا واضحا.
وقد أحلتُك على رابط ذكرتُ فيه كثيرا من الشواهد أن العرب تطلق الجمع وتريد به التثنية، ونقلت فيه عن أهل العلم أن هذا هو الأكثر في كلام العرب في أشباه المثال الذي معنا، فهم يطلقون الجمع ويريدون التثنية أصلا، فلم يحتاجوا إلى التصريح؛ لأنها مفهومة من الكلام، وإنما احتاج إليها من جاء من بعدهم من أهل القرن الثالث وما بعده لأنهم أعاجم على اللغة لا يفهمون من الجمع إلى قسيم التثنية.
وكذلك لم يحتاجوا إلى التصريح بذلك لأنه ليس له داعٍ؛ فإن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا التي يدعوه الناس بها كثيرة وهي متفاضلة كما عليه أهل السنة، وقد جرى الناس قديما وحديثا على الدعاء بأحسنها وأليقها بالمقام، كالدعاء بالجبار إذا كان في مقام الاستنصار، وبالغفار إذا كان في مقام الاستغفار، وبالرزاق إذا كان في مقام الاستمطار، ونحو ذلك.
وإذا ثبت لله عز وجل صفة في الكتاب أو في السنة فلا نحتاج بعد ذلك أن يستعملها الصحابة والتابعون في دعائهم، ونحن نقول: إن حديث (إن الله ليس بأعور) واضح الدلالة في هذه الصفة، وهذا ما فهمه أهل العلم الذين وقفنا على أقوالهم.
فإما أن يكون هؤلاء أصابوا وإما أن يكونوا أخطئوا، فإن كانوا أصابوا فالحمد لله، وإن كانوا أخطئوا فيمتنع في العادات أن ينتشر قولهم ويعرف عند المؤالف والمخالف ويسير مسار الشمس بين أهل العلم بل يحكون عليه الإجماع، أقول: يمتنع أن يحصل كل هذا ولا يوجد في الأمة كلها رجل واحد يعرف الحق يقول لهم: يا جماعة الخير أنتم افتريتم على الله عز وجل، ووصفتموه بما لم يصف به نفسه، وأتيتم بأشياء من كيسكم، وتزيّدتم على نصوص كتاب ربكم وسنة نبيكم.
هذه أمور كلها ممتنعة في العادة، وامتناعها أوضح بكثير مما ألزمتنا به من نقل الدعاء بلفظ التثنية عن الصحابة والتابعين، فإذا كنت ترى امتناع ثبوت الصفة مع عدم ورود ذلك عنهم، فامتناع اشتهار القول بذلك مع عدم إنكار أحد أعظم وأوضح في العقل.
وأنت نازعت في دلالة حديث (إن الله ليس بأعور) وقلتَ: إنه ليس نصا في المسألة، وأنا تنزلتُ معك وقلت: افترض أنه ليس نصا، فهو ظاهر، ودلالته على قولنا أوضح من دلالته على قولك، وأنت لا تنازع في ذلك، ولكنك تنازع في أنه ليس قاطعا في الدلالة على المراد.
ونحن نقول: سلمنا أنه ليس قاطعا، ولكنه ظاهر، فما المانع من القول به إذا كان ظاهرا ولم يوجد له معارض من النصوص، ولا مخالف من أهل العلم؟!
وقد ذكرتُ لك أيضا من قبل قسمة عقلية حاصرة في مسألة صفة العين ولم تجب عنها:
فإما أن تثبت عينا واحدة
وإما أن تثبت عينين
وإما أن تثبت عيونا كثيرة
وهذه قسمة عقلية حاصرة لا محيد عنها، والأقسام كلها باطلة عدا الثاني، فلزم القول به ببرهان واضح.
وأستغفر الله مما طغى به القلم، وأعتذر إليك إن بدر مني شيء.
والحمد لله رب العالمين.
بارك الله بكم يا أخانا
ـ[عبد المتين]ــــــــ[08 - 12 - 07, 09:33 م]ـ
¥