فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له: إن أردت أن تكون كاملا فأذهب وبع أملاكك , وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا , لأنه كان ذا أموال كثيرة.
فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم , إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات , وأقول لكم أيضا: إن مرور جمل من ثقب إبره أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله).
وقال أيضا:
(وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف , ويرث الحياة الأبدية).
ونقل عنه أيضا أنه قال:
(لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم , ولا مزودا للطريق , ولا ثوبين , ولا أحذية , ولا عصا).
وليس هذا فحسب , بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه , فالتفت إليهم وقال:
(إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وإخوانه حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا).
وقال أيضا:
(فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا).
وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله:
(لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر , فتقدم كاتب وقال له: يا معلم , أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة , ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيد , ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني , ودع الموتى يدفنون موتاهم).
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية , وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة , أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها.
وزادوا عليها تعذيب النفس , وتحمل المشاق والآلام , تعمقا في التجرد , ومغالاة في تجنب الدنيا , واحتقارا لزخارفها , كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة , فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها.
وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى (قصة الحضارة) , فيقول: (لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان , ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين , أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة , ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا , وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع , غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح , واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر , والعفة , والصلاة , فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً. ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي 250 ق م) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية وقوانينها الأخلاقية , ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Serapis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة. وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين , فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب , أو خدمة عسكرية , أو منازعات حربية , أو كدح ممل. ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته , وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام.
ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة , ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس , أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل , وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات. وكان أنطونيوس (251 – 356) أشهر النساك الفرادى , وقد أخذ ينتقل من عزلة حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر. وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه , وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به , حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين. وقلما كان يغتسل , وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين , ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد
¥