(ويجب ألا ننسى في هذا المقام أثر المسيحية في الزهد الإسلامي في العصر المبكر فإن الأمر لم يقتصر على اللباس وعهود الصمت وكثير من آداب طريق الزهد التي يمكن ردها إلى أصل مسيحي , بل إننا نجد في أقدم كتب تراجم الصوفية – إلى جانبي الحكايات العديدة التي تمثل الراهب المسيحي يلقي المواعظ في صومعته أو عموده على زهاد المسلمين السائحين في الصحراء – أدلة قاطعة على أن مذاهب هؤلاء الزهاد كانت إلى حد كبير مستندة إلى تعاليم وتقاليد يهودية ومسيحية. ومن ذلك آيات كثيرة من التوراة والإنجيل مذكورة بين الأقوال المنسوبة إلى أولياء المسلمين , وأن القصص الإنجيلية التي كان يقصها رهبان المسيحيين على طريقتهم الخاصة كان يتلهف على قراءتها المسلمون: مثال ذلك المجموعة المعروفة باسم الإسرائيليات التي يقال إن وهب بن منبه (المتوفى سنة 628 م) قد جمعها , وكتاب قصص الأنبياء الذي كتبه الثعالبي (المتوفى سنة 1036 م) , وهذا الأخير لا يزال موجوداً).
وأما قضية المصطلحات التي روجوها بين الناس , واستعملوها فيما بينهم فلا يشك أحد في كونها أجنبية في الإسلام ولغة الإسلام العربية , ومقتبسة مأخوذة من المسيحية بحروفها وألفاظها , معانيها ومدلولاتها مثل: (ناموس , رحموت , رهبوت , لا هوت , جبروت , رباني , روحاني , نفساني , جثماني , شعشعاني , وجدانية , فردانية , رهبانية , عبودية , ربوبية , , ألوهية , كيفوية).
والجدير بالذكر , ومن الأشياء اللافتة للأنظار أن كل من حاول تبرئة التصوف عن كونه مأخوذا ومقتبسا من الرهبنة المسيحية لم يسعه الإنكار عن كون المسيحية إحدى مصادر التصوف , وأنه استفاد منها , ولو أنهم أصروا مع ذلك كونه إسلاميا بحتا , معارضين مع ما قالوه , ومناقضين مع ما أثبتوه , مقرين عليهم بالتعارض الفكري , والتضارب القولي , وإنكار ما هو ثابت لا يمكن رده ولا إنكاره , فيقول واحد من هؤلاء – ولا حظ الزحزحة الفكرية , والتناقض الشديد , والتعارض الغريب , والعجز الظاهر عن الدفاع , وضعف القوة وقلة الحيلة , مع الإنكار والإقرار في وقت واحد , لاحظ واقرأ واستمع – فيقول أحد الكتاب - وهو دكتور في العلوم – ردا على من يجعل النصرانية إحدى مصادر التصوف:
(لم يقتصر الكلام في المصادر الصوفية على المصدر الفارسي أو الهندي بل ذهب فريق آخر من الباحثين إلى أن ثمة عناصر أخرى روحية يمكن أن ترد أصولها إلى أصول نصرانية.
ويؤيد هذا الفريق مذهبه بما كان يوجد من صلات بين العرب والنصارى سواء في الجاهلية أو في الإسلام , وبما يلاحظ من أوجه الشبه الكثيرة بين حياة الزهاد والصوفية وتعاليمهم وفنونهم في الرياضة والخلوة والتعبد. وبين ما يقابل هذا كله في حياة المسيح وأقواله وأحوال الرهبان والقسيسين وطرقهم في العبادة واللباس.
ومن الباحثين والمؤيدين: لهذا الاتجاه (فون كريمر , وجولدزيهر , ونيكولسون وفلسنك وآسين وبلاسيوس , وأندريه وأوليري.
ويرى: (فون كريمر): أن التصوف الإسلامي والأقوال المأثورة عن الصوفية على أنهما ثمرات نمت وترعرعت ونضجت في بلاد العرب تحت تأثير جاهلي , حيث كان كثير من العرب الجاهلين نصارى , وكان كثير من هؤلاء النصارى قسيسين ورهباناً.
وجولد زيهر: يستند إلى ما تقرره النصرانية من إيثار الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء , فيزعم أن ما ورد في الحديث النبوي من هذا المعنى مستمد من النصرانية , ويعني هذا أن يترتب عليه أن الفقر والتخشن في الحياة إنما يرجع إلى أصل نصراني , ويضيف عليه نيكولسون أيضاً. ما يصطنعه الصوفية من صمت وذكر فيزعم أنه مأخوذ من النصرانية.
هذا من حيث: أن التصوف زهد وطريقة في العبادة والرياضة واللباس.
أما فيما يتعلق بها من حيث هي مذاهب تصور منازع أصحابها الفلسفية واتجاهاتهم الروحية والفلسفية معاً: فإن هناك طائفة من القصص والأقوال التي تروي عن المسيح مما ورد في كتب الصوفية أنفسهم , ويمكن أن يؤخذ على أنه مصدر لبعض المذاهب الصوفية الإسلامية ....
¥