على أننا لا ننكر ولا أحد يستطيع أن ينكر ما يوجد من أوجه الشبه بين حياة الزهاد ولباسهم وبعض تعاليم الصوفية وطرقهم في العبادة ومذاهبهم في الحب الإلهي , وبين حياة الرهبان ولباسهم , وبعض ما اثر عن المسيح وحوارييه من أقوال في المحبة وغيرها من شئون الحياة الروحية.
فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نجزم بأن مصدر التصوف والحياة الروحية في الإسلام إنما هو نصراني صرف.
فصحيح أيضا أنه كان ممن مال إلى الرهبنة من العرب من يبني الأديرة – فقد روى عن حنظلة الطائي أنه فارق قومه وتنسك , وبنى ديراً بالقرب من شاطئ الفرات حيث ترهب فيه حتى مات , وكذلك قيل عن قس بن ساعدة كان يتقفر القفار , ولا تكنه دار , يتحسس بعض الطعام , ويأنس بالوحوش والهوام.
وصحيح أنه يروي عن أمية بن أبي الصلت أنه ليس بالمنسوخ تعبداً وأن لكل من قس وأمية نثرا وشعراً وطبعاً بطابع ديني , وأصطبغا بصبغة الزهد في الدنيا والنظر في الكون , وصحيح بعد هذا كله , وفوق هذا كله , أن القسس والرهبان كانوا ينبثون منا وهناك في أسواق العرب ويبشرون ويتحدثون عن العبث والحساب والجنة والنار كما يدل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عنهم وتحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم.
وتصور إلى أي حد كانت تعاليمهم بين العرب , فهذا كله صحيح لا شبهة فيه ولا غبار عليه ولكن الذي ليس بصحيح هو أن نجعل منه أساساً يبني عليه القول بأن وحدة مصدر التصوف الإسلامي.
ولكن هناك تساءلاً وهو لماذا يقصر الباحثون أنظارهم على حياة المسيح وأقواله والرهبان وأحوالهم حين يحاولون ربط الصوفية بالمصادر النصرانية ولم لا يجوز أن يكون هذا التصوف أيضاً كان مسايرة لطبيعة الحياة العربية الجاهلية.
وقد كانت وقتئذ حياة خشنة لا حظ لها من ترف , ولا أثر فيها لنعومة بحيث يمكن أن يقال: إن حياة الزهاد والصوفية في الإسلام إنما هي استمرار لهذه الحياة الخشنة البعيدة عن الزخرف والنعيم , والتي كان يحياها العرب الجاهليون بصفة عامة , والتي تصطبغ عند بعضهم بصبغة الخلوة والانقطاع عن الناس , إلى التفكر والتقرب من الآلهة يلتمسون عندهم الخير والحكمة؟
بل وما الذي يمنع أيضاً من أن يكون مرجع الحياة الروحية الإسلامية هو مذهب الحياة التي كان يحياها قوم في الجاهلية يعرفون ببني صوفة , الذين انفردوا لخدمة الله عند بيته الحرام؟
ومع هذا لا أحد ينكر ما للمسيحية والرهبان من تأثير بالغ في الحياة الجاهلية السابقة.
وبالإضافة إلى ما نلتقي به في ثنايا بعض النظريات الصوفية في الحب الإلهي ببعض الألفاظ والعبارات والعقائد التي هي من أصل نصراني مثل القول: (باللاهوت والناسوت) أو (حلول اللاهوت في الناسوت) أي حلول الإله (اللاهوت) في المسيح الإنسان (الناسوت) أو حلول الأول في الثاني إذا بلغ هذا درجة معينة من الصفاء الروحي.
ومثل القول (بالكلمة) التي هي في النصرانية واسطة بين الله والخلق , والتي اصطنعها بعض الصوفية في التعبير عن نظرياتهم في الحقيقة المحمدية , باعتبارها أول مخلوق خلقه الله , أو: أول تعين للذات الإلهية فاضت منه بقية التعيينات الأخرى من روحية ومادية , ولم تظهر هذه العناصر النصرانية وأشباهها إلا بعد أن كان المسلمون قد اختلطوا بالنصارى وأخذوا يحاورونهم ويجادلونهم في العقائد , فكان طبيعيا أن ينتشر بعض هذه العقائد النصرانية , وأن يعمل عمله في البيئة الإسلامية , ويتردد صداه في أقاويل الصوفية ومذاهبهم في الحب الإلهي وفيما يتصل به , من اتحاد بين الرب والعبد , ومن حلول الرب في العبد.
وهذا أمر طبعي ملازم لسنة الحياة وتطورها: إذ لا يمكن وقد تطور التصوف وقد استحال إلى علم له مناهجه ومذاهبه ومنازعه الروحية المصطبغة بصبغة فلسفية , أن يظل الصوفية بمعزل عن هذا الجو الذي امتلأ بالأفكار والعقائد النصرانية وما يدور حولها وجدل بين المسلمين والنصارى دون أن يكون له أثر فيما صدر عنهم من أقوال , وما ذهبوا إليه من مذاهب , لا سيما إذا كانت هذه الأقوال والمذاهب تدور حول مسائل تتصل من قريب أو بعيد بالعقائد).
ويقول الدكتور التفتازاني بعد الرد على المستشرقين القائلين بأن كثيرا من أمور التصوف مأخوذة من النصرانية , يقول بعد الرد عليهم:
¥