(أشار بذلك إلى حقيقة ألف لام ميم , وذلك من طريق الإجمال إشارة إلى الذات والأسماء والصفات (ذلك الكتاب) والكتاب الإنسان الكامل (فألف لام ميم بما أشار إليه هو حقيقة الإنسان (لا ريب فيه هدى للمتقين) الذين هم وقاية عن الحق , والحق وقاية عنهم , فإن دعوت الحق فقد كنيت به عنهم , وإن دعوتهم فقد كنيت بهم عنه (الذين يؤمنون بالغيب) الغيب هو الله لأنه غيبهم آمنوا به أنه هويتهم وأنهم عينه (ويقيمون الصلاة) يعني يقيمون بناموس المرتبة الإلهية في وجودهم بالاتصاف بحقيقة الأسماء والصفات (ومما رزقناهم ينفقون) يعني يتصرفون في الوجود من ثمرة ما أنتجته هذه الأحدية الإلهية في ذواتهم).
ونقل عبد الحليم محمود عن أبي الحسن الشاذلي تفسير قول الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام:
((هي عصاي) معرفتي بك , أعتمد عليها.
(أهش بها على غنمي) أولادي في التربية.
(ولي فيها مآرب أخرى) من باب لي وقت مع ربّي لا تسعني فيه أرض ولا سماء).
وفسر ابن عجيبة الآية القرآنية:
((رب أدخلني) في الأشياء حقوقا كانت أو حظوظا (مدخل صدق) أي إدخال صدق , بأن يكون ذلك الإدخال بك , معتمدا فيه على حولك وقوتك , متبرئا من حولي وقوتي ومن شهود نفسي.
(وأخرجني) منها (مخرج صدق) أي إخراج صدق , بأن أكون مأذونا فيه بإذن خاص , مصحوبا بالخشية وسر الإخلاص , وهذا معنى قوله [ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني] في الأشياء [وإنقيادي إليك إذا أخرجتني] منها.
(وأجعل لي من لدنك) أي من مستبطن أمورك بلا واسطة ولا سبب (سلطانا) أي برهانا قويا , وليس ذلك إلا وارد قويّ من حضرة قهار لا يصادمه شيء ألا دمغه , فيحق الحق ويزهق الباطل , ويكون ذلك السلطان ينصرني ولا ينصر عليّ , أي ينصرني على الغيبة عن الحس وعن شهود السوى حتى نبعد عنهما برؤية مولاهما ولا ينصر على الوهم والحس وشهود الغيرية.
ثم بين ذلك فقال: [ينصرني على شهود نفسي] أي يقويني على الغيبة عنها فإذا انتصرت على شهودها انهزم عني وذهب شهودها وبقي شهود ربها , فالنصرة على الشيء هو غلبته حتى يضمحل وينقطع وكأن شهود النفس عدو يحاربك ويقطعك عن شهود ربك , فإذا نصرك الله عليه ودفعته عنك , فتتصل حينئذ بشهود محبوبك , وإذا فني شهود النفس فني حينئذ وجود الحس , وهو معنى قوله [ويفنيني عن دائرة حسي] فإذا فنيت دائرة الحس بقي متسع المعاني وقضاء الشهود , وهذه هي الولادة الثانية , فإن الإنسان بعد أن خرج من بطن أمه وهي الولادة الأولى بقي مسجونا بمحيطاته , محصورا في هيكل ذاته , قد التقمه الهوى , وصار في بطن الحس والوهم. وسجن الأكوان المحيطة بجسمانيته , فإذا فنيت دائرة حسه وخرج من بطن عوائده وشهوات نفسه , نقبت روحه الكون بأسره , وخرجت إلى شهود مكونها فقد ولد مرة ثانية , وهذه الولادة لا يعقبها فناء ولا موت).
وقال الشعراني ناقلا عن سيده علي الخواص في تفسيره قول الله عز وجل:
((إن الذين قالوا ربنا الله) كمّل الأنبياء (ثم استقاموا) محمد صلى الله عليه وسلم (تتنزل عليهم الملائكة) عامة النبيين (أن لا تخافوا ولا تحزنوا) كمّل العارفين (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) جميع المؤمنين فقد بيّنت هذه الآية مراتب الكمّل , كما بيّنت التي تليها صفاتهم وأحوالهم. وهذه الآية من الجوامع.
قال: ولولا خوف الهتك لأستار الكمّل لأظهرنا لك من هذه الآية عجبا).
والتأويلات كهذه لا عدّ لها ولا حصر , والقوم أشبعوا الكلام في علم الباطن والتأويل الباطني , وملؤا كتبهم به , وهذه الفكرة لم تتدرج إليهم إلا من التشيع والشيعة , كالأفكار الأخرى.
والشيعة بدورهم أخذوها من اليهودية. وهكذا أدخل الصوفية أنفسهم في الفرق الباطنية لأن الإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرها من الفرق الباطنية لم يسمّوا بالباطنية إلا لقولهم: إن لكل ظاهر باطنا , حسب اعتراف الشعراني نفسه , حيث يقول:
(الإسماعيلية: وهم قوم يسمون بالباطنية لكونهم يقولون: لكل ظاهر باطن).
¥