الأشخاص وقدسية المبادئ"، رؤية لقراءة تلك الخلافات بشكل أقرب إلى التحقيق إن شاء الله، وأبعد عن منطق الجدل والمراء المفرق.
أعتقد أن منهج الاستيعاب والاكتساب هو الذي برهن التاريخ على نجاحه في التعاطي مع الشيعة وغيرهم من الطوائف. أما أسلوب التكفير والعزل السائد الآن، فهو يقوي انغلاق أي أقلية على ذاتها، وتشبثها بما في يدها. كما أنه يعمق الجرح، ويوسع الشرخ في صف الأمة في ظروف الطوارئ التي تعيشها اليوم، وفي ذلك خذلان للأمة، وتفريط في قضاياها الكبرى.
فإذا أخذنا موضوع الشيعة في سياق بعض الدول المسلمة تخصيصا، فإن الأمر أشبه ما يكون بالبركان، لأن الطائفية هناك باب واسع إذا لم يغلقه الحكماء، فإن القوى الدولية الطامعة ستستغله أسوأ استغلال، وربما سولت لها نفسها تمزيق تلك الدول، ووضع اليد على ثرواتها، تحت شعار حماية الأقليات وصيانة حقوق الإنسان. والأمر كله يتوقف على حسن إدراكنا لحالة الطوارئ التي تعيشها الأمة، والتحرر من الفكر الإقصائي، وتغليب أسلوب الحكمة والاكتساب والاستيعاب، على أسلوب الجدال والتمزيق والتفريق.
* عموم الفرقة الناجية:
ورب سائل يسأل: ولم التسوية بين متبع ومبتدع، وأين أنتم من حديث الفرقة الناجية؟ وأنا أقول: إن أحاديث الفرق الهالكة والفرقة الناجية من الأحاديث التي أثارت جدلا واسعا قديما وحديثا، ودخلت التعصبات المذهبية والطائفية في تأويلها، رغم أن الأحاديث واضحة الدلالة في أن الفرقة الناجية تتعين بالوصف لا بالتعيين. فأغلب روايات الحديث فيها: "قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي" (صحيح الترمذي)، وبعض رواياته: "قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة" (قال الألباني: إسناده حسن لغيره). وفي إحدى رواياته الضعيفة: "كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم."
وأنا لا أرى وجها لمحاولة كل من الأشاعرة وأهل الحديث في الماضي احتكار مسمى الفرقة الناجية لأنفسهم، كما لا أرى وجها لمحاولة بعض الجماعات السلفية اليوم احتكار هذه الميزة. فإن أي مسلم بذل جهده لإتباع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وأصحابه فهو من "الفرقة الناجية". وليس من اللازم أن توجد هذه الفرقة في زمان واحد أو مكان واحد. بل قد تكون مجموع أناس عاشوا في قرون مختلفة. كما أن الرواية التي جعلت الفرقة الناجية هي "الجماعة" ـ وقد حسن الألباني سندها ـ تعطينا أملا في أن أغلب المسلمين داخلون في معنى الفرقة الناجية. وهذا التأويل أحب إلي من التأويلات الطائفية السائدة.
* فكر جدل لا عمل:
إن الفكر الطائفي فكر جدل لا عمل، فقد ضيع أصحابه الوحي خدمة للتاريخ، وأهدروا قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص. ولأن اللعبة الطائفية استخدام لفكرة لا خدمة لها، فقلما يلتزم لاعبوها بالأفكار التي يشعلون الحروب من أجلها. لذا فلا عجب أن نجد ملكيين في السعودية يصدرون آلاف الكتب دفاعا عن الخلفاء الراشدين، رغم أن الخلافة الراشدة هي النقيض الشرعي والمنطقي للمُلْك. أو أن نرى جمهوريين في إيران يصدرون آلاف الكتب دفاعا عن حق آل البيت في توارث السلطة، رغم أن توارث السلطة هو النقيض الشرعي والمنطقي لقيم الجمهورية وسلطة الانتخاب.
ومن مظاهر تناقضات الفكر الطائفي كذلك، تضخيم الخلاف مع أبناء الملة الواحدة، وتحجيمه مع غيرهم، وإليك هذا المثال: ورد في فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أنه سئل عن التزاوج بين السنة والشيعة، فأجاب: "لا ينبغي"، وورد في فتاوى آية الله علي السيستاني، أنه سئل عن زواج الشيعية من سنيًّ، فأجاب: "لا يجوز إن لم يُؤمَن الضلال"!! مع أن كلا الفقيهين يستطيع أن يقدم لك عشرات المحاضرات عن سماحة الإسلام التي جعلت من حق المسلم الزواج من يهودية أومن مسيحية!! وليس من ريب في سماحة الإسلام وتسامحه وعدله الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، لكن الفكر الطائفي يحْرِم المسلمين من تلك السماحة فيما بينهم.
لست أنكر وجود خلافات موضوعية ضاربة في أعماق التاريخ بين السنة والشيعة، لكن وجود الخلاف لا يقتضي السماح للآخرين باستغلاله، وتضخيمه عن حده، وعدم السعي إلى احتوائه، أو تأجيله ـ على الأقل ـ في ظروف الطوارئ .. فتلك جريمة في حق الأمة، ارتكبها كثيرون بحسن نية وبسوء نية في العقود الثلاثة الماضية.
ثم أليست أقوى دول العالم اليوم خليطا من شتى الديانات والثقافات والملل والنحل؟ فلِمَ يسيطرون على خلافاتهم وتسيطر علينا خلافاتنا؟ واجب دعاة الإسلام ووعاته اليوم هو بناء فقه جديد، فقه يلم الشمل ويجمع الكلمة، ويعلم المسلمين سنة وشيعة الحديث في خلافاتهم دون تشنج، حديث الأخ إلى أخيه.
محمد الشنقيطي المختار
مدير المركز الإسلامي في لبك، تكساس
الولايات المتحدة الأميركية". إنتهى
فأي دعوة هذه التي طعنت في أهل الحديث- وضم الأشاعرة - للتلاقي مع الروافض الأذلاء؟
¥