نعم هناك فرق بين تلك الأحكام، فقضية البراء من الكافر – بدرجاتها -، علقت تارة بمطلق وصف الكفر، وعلقت درجات أخرى منها بأوصاف أخرى كالعداوة، والمحاربة، على خلاف كثير من أحكام الكفار الأخرى، لكن ذلك لا يبيح تقييد جميع الأحوال، بقيد حالة واحدة، إذا أمكن إعمال الجميع، إذ أن المتقرر في أصول الفقه، أن حمل المطلق على المقيد إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الدليلين إلا بتقييد أحدهما، أما إذا أمكن الجمع بدون ذلك وجب المصير إليه، فالسر في ذلك وجوب إعمال جميع أدلة الشريعة، ودفع التعارض بينها.
ومن طرق الجمع أن يقال إن لكل حالة حكم، ولكل وصف درجة في البراء.
إنا لنكشر (أي نبتسم) في وجه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم:
هذا أثر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، صححه بعض أهل العلم، لكن لهذا المعنى شاهد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين (أن رجلا استأذن على النبي ? فلما رآه قال بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي ? في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله ? يا عائشة: متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره).
وهذا، يريح المسلمين الذين يعيشون في الغرب إذ لا بد لهم في كثير من الأحيان من مصانعة من يكرهون، ويجوز لهم أن يغلبوا جانب هذا الحديث وما في معناه على قوله تعالى (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده)، وإذا كان النبي ? قد قال هذا الحديث وهو في المدينة النبوية حيث الاستعلاء للإسلام، فمن باب أولى يكون الحكم ثابتًا في بلد الكفر حيث لا استعلاء لكلمة الإسلام، كل ذلك لا يعني تجاوز هذه المعاملة الحسنة بالظاهر إلى محبة باطنة تورث ولاء ولو مقيدا.
هل يمكن أن يلغى اعتبار وصف الكفر مناطا للبراءة؟
إذا تأملنا هذه المسألة بالقانون المنطقي الأصولي: السبر – أي الاختبار – بعد التقسيم، يظهر لنا ما يلي:
الكافر، لا يخلو إما أن يكون كافرًا، لكنه " يقضي حوائج المسلمين"، وينفعهم، كعم النبي ? أبي طالب.
وإما أن يكون كافرًا، محايدًا، لا يقضي حوائج للمسلمين، ولا ينفعهم، وفي نفس الوقت لا يظهر العداء لهم، ولا يعين عدوًا عليهم.
وإما أن يكون كافرًا، معاندًا، ويدخل فيه المحارب، وهذا قسمان:
الأول: المعاند، والمحارب الذي له حق قرابة أو نحوها:
الثاني: المعاند، والمحارب الذي ليس له أي حق قرابة:
أشكل على كثير من الناس، وربما يكون الحامل للشيخ سلمان على كتابة هذه المقالة () القسم الأول، هل يبغض، أم يحب، أم ماذا؟
إن قلنا إنه يبغض، فهذا لا تستسيغه نفوس كثير من الناس، فيصعب عليهم تصوره، لا سيما حينما يسقطون هذا الحكم العام على أفراد معينين بذواتهم، ونحن نوافق – جزئيًا على هذا – فنسأل مثلا، هل كان النبي ? يبغض عمه أبو طالب؟ ()، وعليه، فهل يجب على المسلمين الذين يعيشون في الغرب بغض جيرانهم الكفار، الذين قد يكونون من ألطف الناس وأحسنهم معشرًا، أم يبغضون شخصيات معروفة تناصر المسلمين في قضاياهم الإنسانية وربما الإسلامية، وتتظاهر معهم، ولم يظهر منها أي نوع عداوة تجاه الإسلام والمسلمين، ونحو ذلك؟. وكيف يسوغ أن نبغضه كله، وفيه خير ونفع للمسلمين، فأقل الأحوال والعدل معه أن نحب ما فيه من الخير، أو نحبه لأجل الخير الذي فيه!.
وإن قلنا أنه يحب، فما نفعل بالكفر القائم به غير المنفك عنه، وكل كفر بغض للرب، واعتداء على جنابه المقدس، وإساءة أدب مع الخالق، وهذا اعتقاد متلبس بالكافر قائم به لا يكاد ينفك عنه، وكذا فإن الكافر، إذا جاء وقت الصلاة مثلا، لم يصل، وإذا جاء وقت الصوم لم يصم، فهو متلبس بتمرد على الرب، وأبلغ من هذا الوصف، إجابة النبي ? لعائشة يوم أن سألته عن عبد الله بن جدعان قائلة إنه كان يقري الضيف، ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الدهر، أينفعه ذلك؟ فقال النبي ? (لا، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (، نسأل الله أن يغفر لنا خطأنا يوم الدين.
وإن قلنا لا يحب ولا يكره، لم يستقم الأمر، أفلا تحبه لما فيه من خير؟ يحال، وإن قلت وكذا لا تبغضه لما فيه من كفر – هو شر في ذاته –؟ يحال أيضًا.
¥