تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

"أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ، والرزق، والشفاعة، فهذا شرك أكبر.

الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى، ونحو ذلك، فهذا نوع شرك خفي.

والوكالة الجائزة هي: توكل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكَّله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه" ([12]).

ثم إن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يُخذل من تلك الجهة، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، قال الله تعالى:] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [([13]).

"للتوكل ثلاث علل: أحدها: أن يترك ما أمر به من الأسباب استغناءً بالتوكل عنها، فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة لا توكل عبودية وتوحيد، كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ويتوكل في حصولها.

قال بعض السلف: "لا تكن ممن يجعل توكله عجزاً ([14])، وعجزه توكلاً ([15]).

العلة الثانية: أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه، كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة.

أما التوكل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله، وجهاد أعدائه فليس فيه علة بل هو مزيلٌ للعلل.

العلة الثالثة: أن يرى توكله منّة ويغيب بذلك عن مطالعة المنة، وشهود الفضل وإقامة الله له في مقام التوكل.

وليس مجرد رؤية التوكل علة كما يظنه كثير من الناس، بل رؤية التوكل وأنه من عين الجود ومحض المنة ومجرد التوفيق عبودية وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه.

فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه، ولا به عن شهود فضله" ([16]).

ذكر ابن القيم - رحمه الله – للتوكل ثماني درجات:

"الدرجة الأولى: معرفة الرب وصفاته ([17])، من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته.

وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

قال شيخنا ([18]) - رحمه الله -: ولذلك لا يصح التوكل ولا يُتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.

فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم: سفلية وعلوية، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة؟! فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم" ([19]).

"الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات، فإن من نفاها فتوكله مدخول، وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها تمام التوكل.

فليُعلم: أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة؛ لأن التوكل أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.

فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سبباً ولا جعل دعاءه سبباً لنيل شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله، إن كان قد قُدّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدع، وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضاً أو ترك التوكل.

فالله سبحانه قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت السبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو.

وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطرق، فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة.

وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبداً.

فوِزان ما قاله منكرو الأسباب: أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها، فلابد أن يصل إليّ، تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قد قضي لي لم يحصل لي أيضاً فعلت أو تركت.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير