فانظُرْ إلى جلالةِ هذهِ الآياتِ وما تضمَّنَتْهُ من الحُجَجِ البليغةِ والآياتِ البَيِّنَاتِ، ثمَّ تأمَّلْ سَعَةَ رحمةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وعظيمَ حِلْمِهِ كيفَ دعَاهُم - وقدْ قالُوا هذهِ المقالةَ الشنيعةَ - إلى التوبةِ بأجملِ عرضٍ وألطفِهِ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ثمَّ ذكرَ ما يُرَغِّبُهُمْ في ذلكَ ويُزِيلُ اليَأْسَ والقنوطَ منْ قلُوبِهِم: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كثيرُ المغفرَةِ، واسعُ المغفرَةِ، لا يستعظِمُهُ ذنبٌ أنْ يغفرَهُ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وعَمَّتْ كلَّ حَيٍّ، وفي ضِمْنِ ذلكَ وَعْدُهُم بالمغفرةِ والرحمةِ والعفوِ عمَّا بدرَ منهم إنْ همْ تابوا إليهِ واستغفَرُوهُ؛ فإذا عَلِمَ العبدُ ذلكَ تحرَّكَتْ دواعي الرجوعِ إلى اللَّهِ في قلْبِهِ , ولمْ يقْنَطْ منْ رحمةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مهما بلغت ذنوبه.
ثمَّ دَعَاهُم إلى عبادتِهِ وتوحيدِهِ، وبيَّنَ لهُم الأدلَّةَ القاطعةَ على بُطْلانِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ عِيسَى وأُمِّهِ -دُونَ أنْ يهْضِمَهُما منزلَتَهُما أوْ يُنْقِصَ قدْرَهُما، بلْ أثبتَ لعِيسى الرسالةَ ولأُمِّهِ الصِّدِّيقِيَّةَ- وذلكَ منْ وُجُوهٍ:
أوَّلُها: قولُهُ تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا يكونُ إلاَّ واحداً، وَ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وهذا يُبْطِلُ التثليثَ.
الثانِي: قولُهُ تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فهوَ رسولٌ منْ جُمْلَةِ رُسُلٍ ماتُوا وهوَ على إثْرِهِم سيموت، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ الذي لا يموتُ.
الثالثُ: قولُهُ: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
أوَّلُها: أنَّهُ مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أنْ لمْ يكُنْ، فلمْ يُوجدْ إلاَّ بعدَ وِلادَةِ أُمِّهِ لهُ؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ إنَّما هوَ الأَوَّلُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ.
الثاني: أنَّهُ محتاجٌ في أصلِ حياتِهِ إلى غيرِهِ فوُجُودُهُ إنَّما كانَ بواسطةِ أُمِّهِ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الحيُّ القَيُّومُ الذي قيامُ كلِّ شيءٍ بهِ، الغنيُّ الحميدُ الذي لا يحتاجُ إلى أحدٍ سواهُ طَرْفَةَ عيْنٍ.
الثالثُ: أنَّهُ مولودٌ؛ والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصَّمَدُ الذي لمْ يلِدْ ولمْ يُولَدْ.
الرابِعُ: أنَّهُ خارجٌ من المكانِ الذي قدْ علِمُوا؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ فالإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنزهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ أُمَّهُ صِدِّيقَةٌ؛ فهيَ أَمَةٌ عابدةٌ فقيرةٌ إلى مَنْ تعبدُهُ، والفقيرُ لا يُنْتِجُ إلاَّ فقيراً.
الوجهُ الرابِعُ: قولُهُ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} وفي هذا عِدَّةُ أدلَّةٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كونَهُما يأْكُلانِ الطعامَ دليلٌ على حاجَتِهما وفقْرِهما إليهِ، والفقيرُ المحتاجُ لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً.
الثانِي: أنَّ العقلاءَ قدْ علموا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لهُ جوفٌ وآلاتٌ تهضمُ الطعامَ، وقنواتٌ يسيرُ فيها الطعامُ، والإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ الصمدُ الذي لا جوفَ لهُ، ولا يحتاجُ إلى ما يحتاجُ إليهِ البشرُ.
الثالثُ: أنَّ الذي لا يستطيعُ تصريفَ الطعامِ داخلَ جسدِهِ وتسْيِيرَهُ في قنواتِهِ، وإيصالَ كلِّ موضعٍ منْ جسمِهِ ما يحتاجُ إليهِ من الغذاءِ؛ وإنَّما الذي يُسَيِّرُهُ ويُصَرِّفُهُ فيهِ غيرُهُ كيفَ يستطيعُ أنْ يُدَبِّرَ شُئُونَ الخلائقِ، ويجيبَ دعَوَاتِهِم، ويعْلَمَ سرائرَهُم وأحوالَهُم؟!!
إنَّما إلَهُهُم المَلِكُ القُدُّوسُ الذي قامَ بشُؤُونِهِم وَوَسِعَهُم عِلْمُهُ وحِفْظُهُ ورَحْمَتُهُ.
الرابعُ: أنَّ العقلاءَ قدْ علِمُوا أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ لا بُدَّ لهُ منْ إخراجِهِ بعدَ هضْمِهِ، والذي تخرجُ منهُ هذهِ الفضلاتُ المُسْتَقْذَرَةُ لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً؛ بل الإلهُ الحقُّ إنَّما هوَ القُدُّوسُ السلامُ المُتَنزهُ عنْ مثلِ هذا وسائرِ ما لا يليقُ بجلالِهِ وقُدْسِيَّتِهِ.
الخامِسُ: أنَّ الذي يأكلُ الطعامَ عُرْضَةٌ لأنْ يأكلَ ما يضُرُّهُ أوْ يُسِيءَ أكلَ ما فيه نفع فيَمْرَضُ ويَسْقَمُ؛ ومثلُ هذا لا يصلحُ أنْ يكونَ إلهاً.
ثمَّ قالَ تعالى بعدَ هذا البيانِ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
-الوَجْهُ الخامِسُ: قولُهُ تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}؛ فإنَّ العبدَ العاقلَ إنَّما يَعْبُدُ مَنْ يَجْلُبُ لهُ النفعَ ويدْفَعُ عنهُ الضرَّ، وليسَ هذا لغيرِ اللَّهِ تعالى؛ فهوَ النافعُ الضارُّ، وغيرُهُ إنَّما ضرَرُهُ ونفعُهُ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى، وهوَ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ، ناصِيَتُهُ بيدِ ربِّهِ لا يستقلُّ بنفعٍ ولا ضرٍّ؛ فَمِن الحماقةِ عِبَادَةُ مَنْ هذا شأْنُهُ!!
-الوجهُ السادسُ: قولُهُ تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، يسمعُ دُعاءَهُم ويعلمُ أحوالَهُم، ولا يخفى عليهِ شيءٌ منْ أمْرِهِم؛ وهذا هوَ الإلهُ الحقُّ، ليسَ الذي لا يسمعُ دُعَاءَ عابدِيهِ ولا يعْلَمُ أحوَالَهُم.
فاستبدالُ عبادةِ اللَّهِ تعالى الذي بيَدِهِ النفعُ والضرُّ وهوَ السميعُ العليمُ بعبادةِ مَنْ لا يَمْلِكُ لهُمْ ضرًّا ولا نفعاً، ولا يسمعُ دُعاءَهُم ولا يَعْلَمُ أحوالَهُم منْ أعظمِ الجهلِ والسفَهِ.
فانْظُرْ كيفَ اجتذبَ القلوبَ إلى عبادَتِهِ وتوحيدِهِ بما لَهُ من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى
والآياتُ في هذا البابِ كثيرةٌ، والمقصودُ التنبيهُ عليها.
¥