وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام: بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي .... .
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الأمر الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)، فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له، ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلاً بما يترتب عليها؟.
الجواب: الظاهر الثاني؛ أي إن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالماً ما زنى. .. .
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (2 / جواب السؤال 224).
2. وسئل الشيخ رحمه الله:
قرأنا لك جواباً عن " العذر بالجهل " فيما يكفر، ولكن نجد في كتاب " كشف الشبهات " للشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم العذر بالجهل، وكذلك في كتاب " التوحيد " له، مع أنك ذكرت في جوابك أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك ابن تيمية في " الفتاوى "، وابن قدامة في " المغني "، نرجو التوضيح.
فأجاب:
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد ذكر في رسائله أنه لا يكفِّر أحداً مع الجهل، وإذا كان قد ذكر في " كشف الشبهات " أنه لا عذر بالجهل: فيحمَل على أن المراد بذلك الجهل الذي كان من صاحبه تفريط في عدم التعلم، مثل أن يعرف أن هناك شيئاً يخالِف ما هو عليه، ولكن يفرِّط، ويتهاون: فحينئذٍ لا يُعذر بالجهل.
" دروس وفتاوى الحرم المكي " (عام 1411هـ، شريط 9، وجه أ).
3. وسئل الشيخ رحمه الله هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟
فأجاب:
العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) حتى قال عز وجل: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)؛ ولقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)؛ ولقوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار)، والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلاً: فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين، ولكن يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي: إنه يُذكر له الحق، ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم، ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور؛ لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، وفي الآية الثانية: (وإنا على آثارهم مقتدون)، فالمهم: أن الجهل الذي يُعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يذكر له: هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله: فإنه يعتبر منهم، وإن كان لا ينتسب
¥