ومن الثاني خبر مسلم {أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر} فإن ذلك يحمل على أن يكون بعذر المرض وأن يكون جمعا صوريا بأن يكون أخر الأولى إلى آخر وقتها وصلى الثانية عقبها أول وقتها كما جاء في الصحيحين
وإذا احتمل كان حمله على بعض الأحوال كافيا ولا عموم له في الأحوال كلها قاله شيخ الإسلام اهـ
والله أعلم
وهذا المتوجه الذي ينبغي أن يلتفت إليه ..
وإبطال القاعدة ليس سديدا، وقد استعملها الأئمة من أهل السنة ولا يحق لنا القول أن القاعدة باطلة بإطلاق بل علينا أن ننظر في هذه القاعدة إلى أمور:
الأمر الأول: ما المراد بالدليل في هذه القاعدة؟
ليس المراد به مطلق الدليل، وإنما المراد به وقائع الأحوال الفعلية التي لا يمكن بحال ان يقال بعمومها، ولو طالعنا صنيع الأئمة حين استدلالهم بهذه القاعدة لوجدناهم يوردونها في دليل هو من وقائع الأحوال الفعلية، وانظر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حين قال في في الفتاوى الكبرى: "فلم يكن فيه حجة لمجيز إدخال العمرة على الحج لأنها واقعة فعلية وهي إذا تطرق إليها الاحتمال سقط الاستدلال بها فما بالك بهذه التي قامت الأدلة الصريحة على أن الإحرام بالعمرة إنما كان لأجل هذا الغرض فظهر بذلك دليل المذهب وأنه لا غبار عليه"
وقال الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى مقررا لذلك: "واستدل بعضهم بالحديث على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع وإن لزمته نفقته، قال في فتح الباري: ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال، فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه يزيد نفقته ا هـ وهو غير صحيح؛ لأن واقعة الحال القولية إذا تطرق إليها الاحتمال أفادها العموم بخلاف واقعة الحال الفعلية، فإن تطرق الاحتمال إليها يسقطها، وهذا هو محمل قول الشافعي رضي الله تعالى عنه مرة: وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال أكسبها العموم في المقال، فهذا في الواقعة القولية كما في هذا الحديث، وقد أشار إلى ذلك رضي الله عنه بقوله في المقال، وقوله مرة أخرى: وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وأسقط بها الاستدلال، فهذا في الواقعة الفعلية، كوضع يد عائشة رضي الله عنها على قدمه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة فإنه لما احتمل أن يكون من وراء حائل لم يكن فيه دليل للحنفية على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء،
ـ وقال: وقد قال الشافعي رضي الله تعالى عنه وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال نزلها منزلة العموم في المقال ولا يعارضه قاعدته الأخرى إنه إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال لأن هذه في الوقائع الفعلية وتلك في الوقائع القولية كما قرر في محله.
ولو نظرنا لكلام أهل السنة أيضا لوجدنا أنهم يقررون هذه القاعدة في الأعم الأغلب في وقائع الأحوال الفعلية، فالشيخ إبراهيم آل الشيخ استدل بهذه الفاعدة فقال: "أن تكون إقامته أكثر من أربعة أيام، فهذا قد اختلف العلماء في حكمه. فمنهم من أجاز له القصر وغيره من رخص السفر،واستدلوا بما سبق آنفاً من قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مكة عام الفتح وفي تبوك، لأنه كان يقصر مدة إقامته فهي تزيد على أربعة أيام.
ومنهم من منعه مستدلاً بما تقدم من أن الأصل في صلاة المقيم الاتمام، لكن جاز القصر لمن أزمع إقامة أربعة أيام فأقل، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك في حجة الوداع، ومازاد عن أربعة الأيام إذا كان مزمعاً الاقامة فلم يقم به دليل صريح خال من معارض، وإذا حصل الاحتمال سقط الاستدلال، وحينئذ نرجع إلى الأصل وهو الاتمام"
وكما نرى هنا ورأينا سابقا في كلام رشيخ الإسلام أنها موجهة لقضية عين لا عموم لها، ومن تأمل بان له ذلك.
وهذا الذي وجهت به القاعدة هو قول لكثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى، قال في شرح الكوكب "وقال الأصفهاني: يحمل الأول على قول يحال عليه العموم، ويحمل الثاني على فعل، لأنه لا عموم له.
واختاره شيخ الإسلام البلقيني، وابن دقيق العيد في شرح الإلمام، والسبكي في باب ما يحرم من النكاح في شرح المنهاج.
وقال القرافي: الأول مع بعد الاحتمال، والثاني مع قرب الاحتمال ... "
الأمر الثاني: أن استعمال الأئمة رحمهم الله تعالى لهذه القاعدة ليس ابتداء وإنما في باب تعارض الأدلة، وهذا ظاهر بين.
الأمر الثالث: أن الاحتمال المراد به الذي يقبله اللفظ، ويكون احتمالا قريبا مستساغا من جهة لغة العرب، اما التأويل المتعسف، والتحريف المبتذل، فليس مرادا، واستعمال أهل الأهواء قاعدة ما على وفق أهوائهم لا يقتضي ذلك هدم القاعدة أو إبطالها.
قال المباركفوري في شرح المشكاة: وقال الزرقاني: وإذا احتمل ذلك سقط به الاستدلال؛ لأن القصتين من وقائع الأحوال التي لا عموم لها ((تأمل صنيع الزرقاني))، وقد قال تعالى: "لا تبطلوا أعمالكم " - انتهى. قلت: إبداء مثل هذه الاحتمالات من غير منشأ وقرينة تدل عليها مما لا يلتفت إليه، فإنه تحكم محض، يفعله صاحبه ترويجاً لدعواه وتمشية لمذهبه اهـ
إذن فالاحتمالات ينبغي أن تكون مقبولة ولها أصل ومنشأ وقرينة تدل عليها أما التحكم فلا، ورد القاعدة لتحكم أهل الأهواء كإبطال النصوص لتحريف أهل الأهواء لها، ولا يعقل.
وفقكم الله.
¥