السادس:- أن يكون فهم ما لم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في فهمه. والمراد غير ما فهمه.
وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة.
ومعلوم قطعاً أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين هذا ما لا يشك فيه عاقل. وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب. والعمل به متعين. ويكفى العارف هذا الوجه.
قلت: هذا الوجه وإن كان وقوعه عقلاً مُمكِناً إلا أنه مما لا يجوز وقوعه -ولم يقع - شرعاً لمخالفته قول الحق تبارك وتعالى:- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9].
فلو وقع لنصب الله عليه دليلاً – كأن ينكره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من صحابته -يبين بطلانه لئلا تعمل الأمة بالضلال وتعتقد الباطل طيلة المدة السابقة حتى جاء المتأخرون فزيفوه واهتدوا للحق الذي خفي على أولئك الكرام، و مجرد تصوره يكفي للحكم ببطلانه.
أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ و الأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوباً، وأعمق علماً، وأقل تكلفاً، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى.
فالعربية:- طبيعتهم وسليقتهم.
والمعاني الصحيحة:- مركوزة في فطرهم وعقولهم.
ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل.
ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين.
بل قد غنوا عن ذلك كله.
فليس في حقهم إلا أمران:-
أحدهما:- قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.
والثاني:- معناه كذا وكذا.
وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما. فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما.
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة.
فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة.
والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة.
وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة.
وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور.
فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية - إن كان لهم همم تسافر إليها - وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة.
وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها ثم صار إليها وافاها بذهن كالٍ، وقوة ضعيفة، وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة تضعف قوته عند العمل المشروع. كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني فإذا جاءه قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالة وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه فإذا طالب قلبه بمحبة الله فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره. فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس فإذا جاء إلى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالة فأعطي بحسب ذلك.
والمقصود أن الصحابة أغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط.
هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان، وصفائها، وصحتها، وقوة إدراكها وكماله، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية.
فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟
ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم. -والله المستعان-.
خامساً: و مما يدل على حجية قول الصحابي ما ذهب إليه جمهور العلماء – ومنهم الأئمة الأربعة - من أنه إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث بعدهم ([179]) كما لو أجمعوا على قول واحد؛ فإنه يحرم إحداث قولٍ ثانٍ.
فقول الصحابي – الذي لم يشتهر أو لم يعلم اشتهاره من عدمه – ليس هو حينئذ أقل حالاً أو شأناً في الاحتجاج به، وعدم مخالفته من عدم جواز إحداث قول ثالث حين اختلافهم على قولين معلومين.
¥