وبعد هذه المقدِّمة الطويلة، وبعد رسالتك هذه – أختي ميمونة- عدتُّ إلى كتب الأصول القديمة والحديثة أبحث عمَّا يمكن أن أكتبه لك، ولا أدَّعي أنَّني وصلت إلى شيءٍ أمسكه بيدي، ولكن وصلت لما يمكن أن نسمِّيه "إشارات" أو "منارات" يمكن من خلالها إنارة طريق السالك، فعذراً على ضعفي وقلَّة بضاعتي.
ما وصلت إليه ذو شقَّين:
الشقِّ الأوَّل: مرتبطٌ بعلم "أصول الفقه" عامَّة.
الشقِّ الثاني: مرتبطٌ بالرخصة والعزيمة.
الشقُّ الأوَّل: ما يرتبط بعلم "أصول الفقه" عامَّة:
الحديث حول تجديد الأصول –في رأيي- يمكن أن يكون في أمرين:
1 - لغة الأصول.
2 - قطعيَّة الأدلَّة.
1 - لغة الأصول: لم أجد –للأسف- في ما كُتب من كتاباتٍ أصوليَّةٍ محدثةٍ كتابةً معاصرةً سلسةً وعميقة، بل لم يستطع علماؤنا المعاصرون إخراج علم الكلام والمنطق منها، فمن كتب اليوم إمَّا قلَّد السابقين حرفيًّا في طريقة العرض ولغة الخطاب ولم يفرِّق بينه وبينهم إلا في شكل الكتاب وحداثة اسم المؤلِّف! وإمَّا مبسِّطٍ مخلٍّ جعل من الأصول مادَّةً تافهةً لا قيمة ولا عمق فيها.
والغريب في الأمر أيضاً أنَّ علماءنا المعاصرين استخدموا نفس الأمثلة الشاهدة على أبواب الأصول وفصوله ومسائله، فما زال علماؤنا حتى اليوم يستدلُّون بنفس الاستدلالات التي وضعها الأقدمون منذ بدأ علم الأصول على يد الإمام الشافعيِّ عام 204 هـ!!
وما أظنُّ أنَّ لغة الأصول هذه ولا أمثلته تصلح كي تفهِّم المسلمين دينهم وتربطهم به، أو تكسر الحاجز النفسيَّ الرهيب بين المسلمين وعلمهم الذي يعدُّه العلماء أحد مفاخر هذه الأمَّة.
2 - قطعيَّة الأدلَّة: جرى حديثٌ وجدلٌ كثيرٌ بين العلماء السابقين والمعاصرين حول قطعيَّة الأدلَّة، وأنَّ الأصول إذا لم تكن قطعيَّةً فكيف نجتهد فيها؟ وهي إن دَخَلَها الاجتهاد كغيرها، لم يَعُد لنا معيارٌ نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع، وهو القول الذي قاد رَكْبه الإمام الشاطبيُّ رحمه الله.
وقد خالف هذا الرأيَ العديدُ من العلماء السابقين والمعاصرين، وعلى رأسهم الإمام الباقلاني، وبعيداً عن هذا الخلاف، أودُّ أن أتساءل كما تساءل غيري: ما المراد بالأصول؟
يقول العلاَّمة الشيخ عبد الله درَّاز على "الموافقات": "تُطلَق الأصول على الكلِّيَّات المنصوصة في الكتاب والسنَّة: مثل "لا ضرر ولا ضرار" الحديث، "ولا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى"، "وما جعل عليكم في الدين من حَرَج"، "إنَّما الأعمال بالنيَّات" الحديث، وهكذا، وهذه تسمَّى أدلَّةً أيضاً كالكتاب والسنَّة والإجماع… إلخ، وهي قطعيَّةٌ بلا نزاع.
وتُطلَق أيضاً على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنَّة، التي توزَن بها الأدلَّة الجزئيَّة عند استنباط الأحكام الشرعيَّة منها، وهذه القوانين هي من الأصول، فمنها ما هو قطعيٌّ باتِّفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنِّيَّة والقطعيَّة".
ولعلَّ الخلاف الموجود في كثيرٍ من مسائل الأصول يؤكِّد ذلك، فهناك من الأدلَّة ما هو مختلفٌ فيه بين مثبِتٍ بإطلاق، ونافٍ بإطلاق، وقائلٍ بالتفصيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها، بل إنَّ الأدلَّة الأربعة الأساسيَّة فيها كلامٌ كثير، كالخلاف في الإجماع والقياس، والخلاف حول القواعد التي وضعها أئمَّة هذا العلم، لضبط الفهم، والاستنباط من المصدرين الأساسيَّين القطعيَّين: "الكتاب والسنَّة"، وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعاً في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبيَّ على اعتبار كلِّ مسائل الأصول قطعيَّة، فالقطعيُّ لا يسع مثل هذا الاختلاف ولا يحتمله.
فالنقطة الأولى إذن تكمن في: "أنَّ للاجتهاد في أصول الفقه مجالاً رحبا، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليُّون من قضايا جمَّة، والباب ما يزال مفتوحا لمن وهبه الله المؤهِّلات لِوُلُوجه، ولكلِّ مجتهدٍ نصيب، ولكنَّ الأمر الذي يجب تأكيده بقوَّةٍ هو أنَّ ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه، فإنَّ هذه "القطعيَّات" هي عماد الوحدة الاعتقاديَّة والفكريَّة والعمليَّة للأمَّة، وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطَّرب، ولا يجوز لنا التساهل مع قومٍ من الأدعياء، يريدون أن يحوِّلوا
¥