"وغني عن القول أن كل أصل من الأصول الفقهية ثبتت حجيته بالكتاب والسنة، وقد بيَّن أهل العلم أدلة كلٍ من: الإجماع والقياس والمصلحة وحجية ذلك .. فهي ليست مبتدعة كما يزعم هؤلاء؛ بل هي منهج الاستنباط الشرعي الذي هو من الدين" (1).
إن دعوة العصرانيين هذه ما هي إلا علمانية جديدة تود تسويغ تحكيم القوانين الوضعية في ديار المسلمين، أو للتهوين من شأنها، ومن ثَمَّ مساواتها بأحكام شريعة السماء.
وقد خرج هؤلاء علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر بانحرافاته، وإليك أخي القارئ نماذج من شذوذات العصرانيين في مسائل الفقه المختلفة.
شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه المختلفة:
موقفهم من الحدود:
حاول العصرانيون تسويغ رفضهم لإقامة الحدود الشرعية بحجج واهية كالشفقة على المجرمين، وأن قطع اليد أو الرجم ما هي إلا قسوة ووحشية لا تناسب العصر الحاضر؟!
فالشيخ عبد الله العلايلي مثلاً: يرى أن إقامة الحدود ينبغي أن لا تتم إلا في حال الإصرار، أي: المعاودة تكراراً ومراراً؛ إذ إن آخر الدواء الكي، وبلغ من استهزائه بالحدود الشرعية أن قال: "إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي جعل القصاص صيانة للحياة، وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوهين: هذا مقطوع اليد، والآخر مقطوع الرجل، أو مفقوء العين، ومصلوم الأذن، أو مجدوع الأنف".
أما الرجم: فيقول فيه بمذهب الخوارج: "لا رجم في الإسلام كما هو مذهب الخوارج عامة" (2).
لا يقام عليهما الحد إلا أن يكونا معروفيْن بالزنا، وكان من عادتهما وخلقهما؛ فهما بذلك يستحقان الجلد (3).
ولحسين أحمد أمين فتوى عجيبة في حد السرقة عندما يقول: "لقد كان الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح في مصافِّ قتله، لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة جازمة رادعة لجريمة السرقة في مثل هذا المجتمع" (4).
إباحة الربا في البنوك:
وقد بدأ ذلك الاجتهاد الشيخ محمد عبده، وتابعه في ذلك تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، وكانت الحجة هي الحفاظ على اقتصاد البلاد. والربا المحرم عند هؤلاء هو الربح المركب، أي الذي يكون أضعافاً مضاعفة (5).
وممن قال بذلك من المعاصرين: الشيخ عبد الله العلايلي، وهو يكرر ما قاله أسلافه، يقول: "ما دام المصرف لا يزيد على أنه مقر سمسرة بتقاسم المردود مشاركةً مع من أسلم إليه مالاً، مفوضاً إياه ليعمل به حيث قضت خبرته، ولا قائل بحرمة عمولة السمسار!! (6).
فحرمة الربا واضحة، ونصوصه قطعية في الكتاب والسنة، وتحريم السرقة في الكتاب والسنة، وطُبِّق الرجم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ولذلك فمن فضول القول أن نناقش الفتاوى السابقة؛ لأنها واضحة الضلال والانحراف، وخارجة عن إجماع فقهاء الأمة خلال عصورها المفضلة.
يقول الشيخ محمد الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في هذه الفتاوى المنحرفة: "أما النظام الوضعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض كدعوى تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فِعْلها بالإنسان ... إلخ" (1).
ويكفي أن نعلم أن الأمم عندما ألغت القصاص شاعت فيها الجرائم، وضجت المحاكم وابتليت المجتمعات، فشاعت الفوضى ونضب معين الأمن.
موقفهم من قضية المرأة:
اهتم العصرانيون بقضية ما يسمى بتحرير المرأة وإعطائها حقوقاً سياسية كالمرأة الغربية، ودعوا إلى الثورة على الحجاب وتعدد الزوجات وإباحة الطلاق؛ لقد أكمل هؤلاء المؤامرة على المرأة المسلمة التي قادتها الحركة النسائية بعد قاسم أمين وأعوانه.
لقد اعتبر العصرانيون مسألة تعدد الزوجات ـ التي شرعها الله ـ من سمات عصر الإقطاع. يقول محمد عمارة: "إن تعدد الزوجات، وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" (2).
ويرى هؤلاء أن الحجاب الشرعي قيد يجب التخلص منه، ثم راحوا يسوِّغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها وحصنها الأمين.
فالدكتور محمد عمارة يرفض أن تعود المرأة مكبلة بحجابها ويؤكد "أن جذور هذه القضية ترتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر مما هي مرتبطة بالدين" (3).
¥