ولكتَّاب المدرسة العصرانية أقوال عحيبة حول تجديد أصول الفقه مآلها الفصل بين الدين والدولة، ومحاولة تمييع العلوم المعيارية للوصول إلى الفوضى، والتمهيد لتطبيق القوانين الوضعية الغربية تحت مظلة الإسلام.
يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول" (1).
ودعا الدكتور حسن الترابي إلى تطوير أصول الفقه، للوفاء بحاجات المسلمين المعاصرة فقال: "إن علم الأصول التقليدي لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء؛ لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها" (2).
ويقول موضحاً فكرته: "إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة العامة، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيداً عنهم، والنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية، وإن العلم النقلي الذي كان متاحاً في تلك الفترة كان محدوداً مع عسر في وسائل الاطلاع والبحث والنشر، بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة" (3).
وإنها لدعوى غريبة أن يزعم الدكتور الترابي أن العلم النقلي من نصوص الكتاب والسنة كان محدوداً في زمن نشأة الفقه وازدهاره!
وما البديل لدى الدكتور الترابي؟!
البديل عنده أن يشارك الشعب في الاجتهاد على طريقة دعاة الديمقراطية الغربية!!
يقول: "الاجتهاد مثل الجهاد، وينبغي أن يكون منه لكل مسلم نصيب".
ويضيف: "واتسم فقهنا التقليدي بأنه فقه لا شعبي، وحق الفقه في الإسلام أن يكون فقهاً شعبياً" (1).
ويتابع الدكتور محمد عمارة زملاءه في حملتهم على الفقه والفقهاء ودعوتهم إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لكل مدعٍ وعامي لا علم له بالكتاب والسنة. ويقول: "إن الاجتهاد يجب أن يخرج وأن نخرج به من ذلك الإطار الضيق الذي عرفه تراثنا الفقهي، والفقهاء ليسوا وحدهم المطالَبين بالاجتهاد؛ بل إن المطالَب به هم علماء الأمة وأهل الخبرة العالية فيها، ومن كل المجالات والتخصصات؛ لأن ميدانه الحقيقي هو أمور الدنيا ونظم معيشتها، وليس إلحاق فروع الدين بأصولها ... " (2).
"فالمجتهد عند عمارة يمكن أن يكون بلا علم بالقرآن والسنة واللغة والأصول؛ لأن مجال المجتهد هو "أمور الدنيا" ولا يشترط لها كل هذا من العلوم الشرعية، وإنما يشترط لها أن يكون المرء "مستنيراً عقلانياً" تقدمياً ثورياً حضارياً؛ فمن جمع هذه الصفات فهو شيخ الإسلام حقاً؛ وقد بنى كلامه على باطل، هو التفريق المزعوم بين الدين والدنيا، وما بُني على باطل فهو باطل" (3).
ومن غرائب الاجتهاد العصراني أن بعضهم دعا إلى صهر المذاهب الفقهية في بوتقة واحدة، وجعلها مستمَداً لا ينضب معينه، وذلك بالتسليم بكل ما قالت به المدارس الفقهية على اختلافها وتناكرها، بغض النظر عن أدلتها، ثم اختزانها في مدونة منسقة الأبواب كمجموعة "جوستينان" وأعْنِي كل ما أعطت المدارس: الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية، وذلك بجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجدُّ ويحدث" (4).
"وهذه الدعوة التي تطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد ليفتح الباب على مصراعيه للقادرين وغير القادرين، ولأصحاب الورع وأصحاب الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدنى عذر .. وتبيح الربا ـ إلا ربا النسيئة أو أصنافاً معينة ـ وظهرت آراء تحظر تعدد الزوجات وتحذر من الطلاق؛ وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية، يهدف إلى مطابقة الحضارة الغربية" (5).
والنتيجة التي يود هؤلاء أن يصلوا إليها من تطوير الشريعة هو تحكيم القوانين الوضعية، وفي ذلك تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام، الذين زعموا أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني. وردد هذه المقولة - مقولة المستشرق اليهودي "جولد زيهر" - الدكتور محمد فتحي عثمان نقلاً عن أستاذه السنهوري الذي يقول: "الفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاته القانون المدني، وقد صنعوه فقهاً صحيحاً؛ فالصياغة الفقهية، وأساليب التفكير القانوني واضحة فيه وظاهرة" (6).
والغاية من كلام السنهوري وإقرار تلميذه له أن يخضع الفقه الإسلامي لإشراف القانون الوضعي، ويكيِّف نفسه حسبما يقتضيه ذلك الخضوع.
¥