لقد هاجم العصرانيون الفقه والفقهاء، وشككوا في حجية السنة النبوية، واتفقوا ـ باسم الاستنارة ـ على ضرورة تجديد الإسلام ذاته، بمعنى تعديل أحكامه وتشريعاته أو اقتلاعها من الجذور.
فالدكتور محمد أحمد خلف الله: "يرى ضرورة انعتاق الأحكام من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، وأن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق، لم يكن لهم بها عهد من قبل" (1).
"وهو يعجب من الجامدين الذين يتمسكون بتلك المعايير البالية لمجرد أنها وردت في القرآن والسنة" (2).
ويعتبر الدكتور محمد عمارة أن الشريعة ما عادت تلائم قضايا العصر فيقول: "إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما يقرره نبي لعصره" (3).
ويدعو كذلك إلى مدنيَّة السلطة، وجعل حق التشريع في يد جمهور الأمة عندما يقول: "فأصحاب السلطة الدينية قد احتقروا جمهور الأمة عندما سلبوها حقها في التشريع وسلطاتها في الحكم" على حين قرر القائلون بمدنيَّة السلطة "أن الثقة كل الثقة بمجموع الأمة؛ بل جعلوها معصومة من الخطأ والضلال" (4).
أما الدكتور أحمد كمال أبو المجد "فهو يتعجب ويتأفف من هؤلاء المسرفين الذين يرون ضرورة إسقاط القوانين الوضعية، ومن ثم يدعو إلى زلزلة قواعد الشريعة؛ حيث لا يُقتصر الاجتهاد على الفروع فحسب، بل والأصول أيضاً" (5).
إن الأقوال السابقة تدعو صراحة إلى إسقاط الأحكام الشرعية. والشريعة الإلهية هي حكم الله، والقانون الوضعي حكم جاهلي كله سفه ونقص وعجز وقصور.
والشريعة الإلهية فصّلها الله الذي خلق الإنسان، وهو أعلم به؛ فهي ثابتة باقية إلى يوم القيامة، أما القانون الوضعي فهو صناعة بشرية من أناس يتصفون بالعجز والنقص والتحريف، وتتحكم فيهم الشهوات (6).
إلا أنها التبعية عند العصرانيين الجدد الذين يرون التقدم في القوانين الأجنبية منذ أقدم العصور، يقول محمد فتحي عثمان: "وعلينا ألا نتنكر لأنظمة مرت بمراحل تقدمية كبرى في الفكر والتطبيق، قبل أن نتطور بثروتنا الفقهية التي تكدس عليها غبار القرون من التعطيل والتجميد" (7).
ولنا أن نتساءل عن هذه المراحل التقدمية؟!!
يقرر البحث العلمي أن مراحل القانون الوضعي تبدأ بقانون "حمورابي" وقانون "مانو" وقانون "أثينا" والقانون "الروماني" والقانون "الكنسي الأوروبي" مأخوذ من القانون الروماني ومما شرعه الرهبان، ثم قانون نابليون، وهذه هي المراحل التقدمية الكبرى في الفكر والتطبيق عند المؤلف (8).
يقول ـ تعالى ـ: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون {المائدة: 50}.
2 - تأييد سقوط الخلافة:
لقد تكالب الأعداء على إسقاط الخلافة، وكان من أهم شروط اتفاقية (سايكس ـ بيكو) 1915م، أن اشترط الحلفاء "إلغاء نظام الخلافة وطرد السلطان العثماني خارج الحدود، ومصادرة أمواله، ثم إعلان علمانية الدولة" (1).
وهاجم العصرانيون نظام الخلافة متبعين في ذلك كبيرهم الشيخ علي عبد الرازق، صاحب كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) الذي وصف الخلافة بأنها "خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، وليس لنا حاجة إليها في أمور ديننا ولا دنيانا، ولو شئت لقلنا أكبر من ذلك؛ فإنما كانت الخلافة، ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد" (2) ـ وهو يستعير في عرضه هذا آراء المستشرقين من قساوسة صليبيين ويهود حاقدين ـ وأن الإسلام دين لا دولة، وكان التوقيت لصدور كتابه هذا خبيثاً؛ ذلك أنه أصدره عام (1925م) لإجهاض محاولات إحياء الخلافة آنذاك بعد إلغائها على يد كمال أتاتورك (3).
ويقول محمد أحمد خلف الله: "والفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه" (4).
ويرى محمد فتحي عثمان "أن الخلافة الإسلامية كانت صورة تاريخية، ولم تعش طويلاً، فعلى المسلمين ألا يفكروا فيها مرة أخرى" (5).
ويقول محمد عمارة: "لم تكن الدولة هدفاً من أهداف الوحي، ولا مهمة من مهام النبوة والرسالة، ولا ركناً من أركان الدين وإنما اقتضتها ضرورة حماية الدعوة الجديدة" (6)، "إن موقف الإسلام في مجال السياسة والدولة ينكر وجود سلطة دينية لبشر خارج نطاق الموعظة والإرشاد، ولم يحدد نطاقاً معيناً للحكم" (7).
¥