تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وحيث إن من سنة الله عز وجل وجود الصراع بين الحق والباطل فقد اقتضت حكمته -تبارك وتعالى- أن يهيئ لهذا الدين من يقوم به وينافح عنه، ويجدد ما اندرس من معالمه، لاسيما مع تقادم الزمان وبعد البشرية عن مشكاة النبوة وأنوار الرسالة، مصداقًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (1)، ولذلك ازدان عقد التاريخ عبر أحقابه المتلاحقة بكوكبة من المجددين من العلماء الربانيين الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

وقد كانت مهمة هؤلاء المجددين منحصرة في إزالة كل ما علق بالدين من مظاهر المخالفات التي غيرت رونقه وبهاءه، وإعادة الناس إلى ما كانت عليه القرون المفضلة، والعودة بالدين وأصوله، ومناهج الاستدلال والاستنباط، فيه غضة طرية كما أنزلها الله وأوحاها إلى رسوله، غير أن هذا المسلك الوضاء، والجانب المشرق اللألاء من التجديد قابله جانب آخر كالح يمتطي أصحابه صهوة التجديد، ولكنهم يسعون في الخراب والتفسيد، ويرفعون شعار الإصلاح، وهم يرومون الفساد والإقباح، في هدمٍ لأصول الدين، ونقضٍ لأسس الملة، ومساسٍ بثوابت الأمة، ونيلٍ من مثلها وقيمها، والمستقرئ للتاريخ يجد أن الانحراف عن هذا الدين القويم أخذ مسالك متعددة، وطرائق قدداً كلها يرى أصحابها أنهم مجددون مصلحون، ولاغرو فقد زعم المنافقون أنهم أرباب إصلاح، قال تعالى عنهم: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون البقرة: 11. كما أن المتأمل في أسباب الانحراف يرى أن من أكبرها التأويل والتحريف للنصوص، ولي أعناقها وتطويعها للأهواء، وجعل العقل حكمًا على النقل، ولله در العلامة ابن القيم - رحمه الله - حيث يقول:

هذا وأصل بلية الإسلام تأويل ذي التحريف والبطلان

وتمر القرون وتتابع الأعصار والسنون، وتصاب هذه الأمة - في عصرنا الحاضر- بألوان من التحديات، تعد هي الأخطر عبر تاريخ هذه الأمة الغابر، ولعل أشدها ضراوة وأعتاها كيدًا تلك الحروب الفكرية التي ترمي إلى فرض أنماط ثقافية، ومفاهيم ومصطلحات غير شرعية في المجتمعات الإسلامية، وتكمن الخطورة حينما يتولى كبر ذلك بعض أبناء المسلمين، ومن هم من بني جلدتهم، ويتكلمون بلغتهم، ممن اهتزت ثقتهم بدينهم، وانبهروا أمام بهرج حضارة أعدائهم، وسقطوا صرعى أمام طوفان غزوهم، وبريق مدنيتهم الزائفة، وكان شعار "التجديد" والتحديث والعصرنة سلاحًا يرفعونه للوصول إلى مآربهم المشبوهة، التي تجتاح في طريقها مسلّمات الأمة وثوابتها، وتطيح بأصول الشريعة وقطعياتها.

ومع شديد الأسى والأسف أن هذه الشعارات البراقة قد امتد تأثيرها إلى أفكار بعض المنتسبين للدعوة والفكر الإسلامي والمهتمين بعلوم الشريعة، فخدعوا بها وظنوا أنهم بمثل هذه الدعوات يظهرون سماحة الدين ويسر الشريعة ومحاسن الإسلام لدى الآخرين، ولكنهم ضيّعوا الأمرين، فلا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا، وتلك عاقبة كل من حاد عن فهم الإسلام على ضوء ما فهمه خيار هذه الأمة - رضي الله عنهم ورحمهم.

وقد اكتسحت دعاوى التجديد العلوم الشرعية والمعارف والفنون الإسلامية، فأصبحت ترى وتسمع من يطالب بالتجديد في علوم العقيدة والسنة والفقه والأصول والتفسير والسيرة واللغة وغيرها، وهي دعاوى تعرف منها وتنكر، فقد تمس الأساس والجوهر والأصول والقطعيات ولا ريب أنها حينئذٍ ممنوعة، وقد لا يعدو التجديد في الوسائل والأساليب والأشكال والصياغة، فالخطب فيه يسير بل قد يكون مطلوبًا للوصول إلى مقاصد شرعية معتبرة من درء مفسدة راجحة، أو تحقيق مصلحة غالبة.

ومن أشهر العلوم الشرعية التي طالتها أيدي أدعياء التجديد: علم أصول الفقه، ذلك العلم الذي يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فقد امتدت يد التجديد إليه ما بين مشروع وممنوع، فأما الأول فيقتضي تجريد علم الأصول من الإغراق في المباحث الكلامية والمسائل الجدلية، وتدعيم قواعده بصحيح النقل والأثر وإبراز علم المقاصد الشرعية، وإعادة عرضه بما يسهل فهمه ويبعده عن الغموض والجمود والجفاف والتعقيد، والتركيز على كثرة الأمثلة والتطبيقات، وربط الفروع بالأصول، وما تجديد شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير