"ثالثا: وفي استدلال الطوفي على كون المصلحة أقوى من الإجماع، أبرز صورة للمغالطة التي تشبه أن تكون مقصودة، إذ هي من الوضوح بحيث لا يجهلها من مارس كتب العلم والاطلاع عليها مهما قلَّت بضاعته منها ".
فقد استدل على كونها أقوى من الإجماع بقوله: "إن منكرى الإجماع قالوا؛ برعاية المصالح، فهى إذا محل وفاق. . والإجماع محل خلاف.
"فإذا كان يريد بذلك، أن منكري الإجماع قالوا كغيرهم بأن نصوص الشريعة قائمة على أساس المصالح، فهذا صحيح، ولكن ما علاقة هذا بدعواه؟ وهل يلزم من الاتفاق على كون الشريعة قائمة على أساس المصالح. . الاتفاق على تقديم ما توهم أنه مصلحة على الإجماع أو النصوص"؟
"إن من الوضوح بمكان أن إجماعهم الذي يشير إليه يدعوهم إلى الحذر من الوقوع في هذا الضلال، فضلا عن أن يتفقوا على الوقوع فيه ".
"وإذا كان يريد بذلك أن منكري الإجماع، قالوا بمثل رأيه في شأن المصالح، فهذا كذب وافتراء، وما من أحد من المسلمين قبله خطر له أن يقول بمثل ما أتى به؛ سواء منهم جماهيرهم القائلون بالإجماع، والقلة الذين لم يقولوا به ".
"ثم تأمل كيف نسي نفسه، وهو يقلل من أهمية الإجماع في جنب المصلحة المجردة، فراح يستدل على ذلك نفسه بالإجماع. .! فأصبح معنى كلامه: الإجماع أضعف من رعاية المصلحة، لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه .. !! وهل يقول هذا الكلام عاقل ". .؟
"رابعا: وفي استدلاله على كون المصلحة مقدمة على النص، مغالطة أكبر وأشنع. . إذ استدل على ذلك، كما ذكرنا، بأن النصوص مختلفة متعارضة، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف. .
فكيف تكون نصوص الشريعة مختلفة متعارضة، وهي آتية من عند الله عز وجل "؟
"ولو كانت مختلفة متعارضة كما يقول، لكان ذلك أكبر دليل على أنها من عند غيره سبحانه وتعالى، ولذا نبَّه الله عباده إلى أن تناسق القرآن وتوافق نصوصه وآياته، أكبر دليل على أنه من عند الله عز وجل " (1).
"ولقد استدل الطوفي على هذا الزعم العجيب بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة الصلة بين هذا الدليل وذلك الزعم، فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الأفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها؛ وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحدا غير معين، قد وافق الحقيقة وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) (1).
"ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمه. . . . ".
"وإذا تأملت في كلامه، وجدت أنه إنما يقصد بالنصوص حقيقتها لا الفهم لها. . إذ هو يقول عن المصلحة في مقابلها: "ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه "، فهو إذاً إنما يقابل ذات النصوص بذات المصالح، ثم يفوه بما لا يقول به مسلم من أن النصوص متعارضة متخالفة في نفسها ". .
"هذا عن مغالطته فيما وصف به نصوص الشريعة ". .
"أما مغالطته فيما قال عن المصلحة فكامنة في أنه بنى وهمه هذا على مقدمتين لا رابطة بينهما، ولا حد متكررا فيهما، إذ هو ينظر أولا إلى جزئيات المصالح المتصورة في الخارج، ومعظمها جزئيات اعتبارية مختلف فيها ".
"فيقول: "هذه مصالح ". . ثم ينظر إلى الجنس المعنوي لها - وهو كلي منفق على رعايته في جميع الأذهان - فيقول: والمصلحة رعايتها حقيقة مجمع عليها. . ثم يزهي بالنتيجة المغلوطة قائلا: فرعاية المصالح - أي الجزئية - أمر حقيقي مجمع عليه ".
"فهذا القياس الملفق هذا التلفيق، يشبه ما يذكره المناطقة مثالا على السفسطة، وهو أن يشير الإنسان إلى صورة فرس على الجدار فيقول: هذا فرس، ثم يشير إلى جنس الفرس القائم في الذهن فيقول: وكل فرس صاهل، ثم يأتي بمثل نتيجة الطوفي فيقول عن الصورة: فهذا صاهل فرس " (2).
¥