تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

"ولا ريب أن التخالف بين جزئيات المصالح المختلف فيها بين الناس، وحقيقتها القائمة في الذهن، ليس أقل من التخالف بين صورة الفرس على الورق وحقيقته الماثلة في العقل ".

"فالحقيقة الذهنية للمصلحة، حقيقة متفق على رعايتها كما قال، ولكن ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص، على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج ".

"وهذه الصور الجزئية، هي شيء غير الحقيقة الذهنية المجردة، وهى ليست أمورًا متفقا عليها بحال من الأحوال، لأن هذه الصور إنما يصار إليها عن طريق تحقيق المناط، فكل أمر أنيط بتحقيقه نفع ما فهو مصلحة، ومعظم المنافع كما قلنا في صدر هذا الكتاب أمور اعتبارية تختلف حسب اختلاف المشاعر والعادات والأخلاق. . ولقد رأينا كيف أن علماء الأخلاق - وقد أجمعوا على تقديس المصلحة - لم يتمكنوا أن يصيروا إلى أي اتفاق على مسمياتها الجزئية، حينما حكموا في ذلك عقولهم وحدها، بل ولم تتمكن عقولهم من الاستقلال بالنظر والحكم، إذ سرعان ما يغلب عليهم وحي الشهوات والأهواء ومقاصد الأنانية والأثرة، وليته قد تخلف به الزمان حتى رأى عصرنا الحاضر وتعقد مسائله، وحيرة أهله وتضارب آرائهم وتباين مذاهبهم، إذًا لوجد أن المصلحة التي سماها حقيقة لا تختلف ليست إلا سرابا قد ضل سعي الناس وراءه. . . . ".

"من أجل هذا جاءت نصوص الشريعة، مفتاحا لما استغلق على الناس فهمه، وهداية إلى الحق الذي التبس عليهم أمره، إذ الخالق أدرى حيث تكمن مصلحة عباده وحيث تكمن مضارهم. . ومن هنا كانت المصلحة الحقيقة ما عرفت بهدي النصوص أو توابعها، ولا عبرة بمن قد يحسبها مفسدة، وكان كل ما خالفها مفسدة، ولا عبرة بوهم من ظنها مصلحة "

وصدق الله القائل في محكم كتابه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] " (1).

وهناك أمر آخر مهم. . غير ما أورده صاحب (ضوابط المصلحة) وهو أن الأخذ بالرأي الذي جنح إليه الطوفي، لا يمكن أن ينحصر في ضوابط معينة، إذ يصير من حق كل صاحب شهوة وهو أن يدعي المصلحة في أمر ما، دون التفات إلى نصوص الشرع، ولا إلى الإجماع، وحينئذ يصبح الخضوع للهوى والشهوة، لا لأحكام الشرع.

والنصوص الشرعية قد جاءت من أجل تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، على وجه لا يتطرق إليه الاختلال، ومن ادَّعى تعارضها مع المصلحة، فقد ادَّعى عدم اطرادها، وإمكان اختلالها وتخلفها عما وضعت له، وفي ذلك يقول الشاطبي (2):

"فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها، أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها (3). . إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا، وكليا، وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين، وجميع الأحوال. . . ".


(1) ضوابط المصلحة ص 202 - 215؛ وانظر نص رسالة الطوفي، ضمن كتاب (مصادر التشريع الإسلامى فيما لا نص فيه) لعبد الوهاب خلاف، ص 105 - 144.
(2) الموافقات: 2/ 37 - 40.
(3) أى للمصلحة.

"والمصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور ":
أحدها: أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
"الثانى: أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس "
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير