من أبرز خصائص علم الأصول أنه علم يتمتع بخصوبة ودسامة تميزه عن غيره من العلوم، فهو غزير في مادته بعيد عن الجفاف يشبع نهم المقبلين – بجانب أهميته ومكانته الرفيعة – فإذا أدرك الدارس أبعاد هذا العلم يجده متصلا بجميع العلوم الشرعية ومتصلا بأكثر – إن لم يكن كل – بقية العلوم التي تسمى بالعلوم الإنسانية.
فهو بتركيبته الخاصة يأخذ دارسه إلى ميادين تلك العلوم المختلفة فلا يتمكن منه إلا بولوجه أبوابا مختلفة وفنونا متنوعة يسبر أغوارها ويخوض غمارها.
فعلم الأصول - كما أشرنا من قبل – هو الأساس للنظام المتكامل لحياة الإنسان. فبعلم الأصول تتضح المنابع وتعرف المناهج التي تقود إلى الوصول للأحكام التي تنظم حياة الأفراد والجماعات في جميع صورها وجميع مراتبها. وعلم هذا شأنه لا بد من ترابطه مع علوم كثيرة تعالج حياة البشر من جوانبها المختلفة.
فدراسة منابع الأحكام تتطلب أول ما تتطلب دراسة القرآن الكريم، المنبع الأول للأحكام: حقيقة شموله لأحكام تفصيلية وقواعد عامة تندرج تحتها بقية الأحكام غير المنفصلة نصا، ومعانيه، والناسخ والمنسوخ منه، وألفاظه مما يقود إلى دراسة اللغة العربية، ولا معنى لدراسة القرآن الكريم كأصل من أصول الفقه إلا فهم حقيقته هذا الكتاب وفهم دلالاته والتعمق في دراسته.
وتتطلب دراسة منابع الأحكام الشرعية وأصولها،، ثانيا: دراسة السنة النبوية، بأنواعها وأقسامها ومصطلحاتها لتكون تفسيرا للقرآن الكريم ومفصلة له.
وتتطلب دراسة منابع الفقه ومصادره دراسة مكان العقل البشري الذي حددته الشريعة الإسلامية من هذه الأصول، ومجالات اللجوء إليه، وكيفية استخدامه، وحدود ذلك، وهذا بدوره يسوق لدراسة منطقية وعقلية تدور حول قضية القياس وما يرتبط به من مصادر عقلية للأحكام، وإلى دراسة المقاصد الشرعية في الخلق والأهداف العامة والخاصة.
وهذا بدوره يقود لدراسة النظريات والفلسفات الوضعية وتوضيح أهدافها ومقاصدها لمقارنتها وبيان أوجه النقص فيها.
وتتطلب دراسة علم الأصول دراسة للمجتمع الإنساني، دراسة تكشف عن عادات الناس فيه واختلافات بيئاتهم وتأثير ذلك في تصرفاتهم، ومدى صلاح تلك التصرفات أو فسادها بمقياس الإسلام ومبادئه، وهذه الدراسة الاجتماعية يقدم عليها أصل من الأصول الفقهية التي اعتمدتها بعض المذاهب السنية وهو "العرف".
ولعلنا ندرك أن إدراك علم الأصول كما كان في الماضي ضرورة لكل فقيه يُنَصَّب للفتوى أو القضاء، وكان الفقهاء الملمون بالأصول مقدمين على غيرهم خاصة في منصب القضاء، ويفضل من بين هؤلاء العارفون بحياة الناس الاجتماعية وعاداتهم.
ونورد هنا القصة التي رواها الفقيه ابن عرفة (717 - 803 هـ):
في هذا المضمار، قال: "إن ابن عبد السلام [5] كان على وشك أن يعيّن قاضيا ولكن معاصريه من العلماء طعنوا فيه بأنه رجل حاد الطبع، فبلغ النبأ ابن عبد السلام فذهب إلى الوالي وزكّى نفسه بأنه يعرف حياة الناس الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم أكثر من غيره، "وهو يشير إلى معرفته بالعرف" وعندما تأكد الوالي من صدق دعواه عينه قاضيا ولم يلتفت لطعن الطاعنين" [6].
وتتطلب دراسة منابع الفقه الإسلامي دراسة تاريخ التشريع في الإسلام وهو يشتمل على تاريخ الأصول والفقه، ودراسة الظروف التاريخية التي أحاطت بالفقه وأصوله وهذه دراسة تقود للإلمام بالتاريخ عموما من أوسع أبوابه ولا يقتصر على دراسة تاريخ الأصول والفقه وحده، وبذلك يكون الأصولي على علم بكل الظروف التي مرّ بها العلم.
ودراسة منابع الفقه تتطلب دراسة دقيقة وافية مستوعبة لتفاصيل علم الفقه الإسلامي ومذاهبه واختلافات الأئمة والمنصوص عليه وغير المنصوص عليه وأماكن الإجماع الخ، حتى يمكنه معرفة الأصول معرفة نظرية وتطبيقية عملية ولا يقتصر على المعرفة النظرية المجردة.
ولعله من الأكمل لدارس الأصول الإلمام بأصول ومنابع القوانين الوضعية وذلك لإدراك مصادر تلك القوانين وكيفية استخراجها حتى ينجلي عنده سمو الشريعة الإسلامية ويستطيع - كما أشرنا من قبل - بيان نقائص القوانين الوضعية.
¥