تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولنستمع إلى الإمام الجليل ابن الجوزي (سنة 597هـ) وهو يتحدث عمّن يشتغلون بعلوم غير علوم الشريعة ثم يقتصرون عليها وهم يفخرون بتلك المعرفة، ونحن لا ننقل كلام ابن الجوزي للتقليل من العلوم الأخرى، ولكن لنوضح وجهة نظر الماضين، خاصة علماؤهم، فيمن يفرط في إدراك الشريعة وأصولها التي على رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية، يقول ابن الجوزي:

"قد لبَّس (يعني إبليس) على جمهورهم (يعني أهل اللغة والأدب المقتصرين عليهما) فشغلهم بعلوم النحو واللغة من غير المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفس وصلاح القلوب وما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه. فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها، فإن الإنسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مرادة لغيرها، فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل، ولا من الفقه ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس أنهم من علماء الإسلام، لأن النحو واللغة من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن العزيز.

ولعمري إن هذا لا ينكر، ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان، وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب وهو أمر لا زم، وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه، وإنفاق الزمان مع تحصيل هذا الفاضل، وليس بمهم، مع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا، ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل" [9].

من حديث هذا الإمام الجليل نلاحظ كيف أن المسلمين بما فيهم العلماء، كانوا في العصور السالفة لا يعتدون كثيرا بمن لا يحمل علم الشريعة من العلماء إلا إذا كان ما يحمله من علم في خدمة علوم الشريعة - وهذا حق - وجماع علوم الشرعية وخلاصتها هو الفقه وأصوله.

فالعالم الجليل في اللغة مثلا، في الماضي، كان لا بد له من التزود بالعلوم الشرعية وإلا فإن الاعتداد بعلمه سيكون ضعيفا، وكذلك عالم التاريخ، والكلام، والمنطق الخ الخ.

وبناء على هذه الروح السائدة، وبناء على اهتمام المسلمين عموما بعلوم الشريعة، أراد العلماء المتخصصون في غير الشريعة أن يدخلوا ميدان الشريعة ويدلوا بدلوهم.

ونحن لا نريد أن يفهم من هذا أن هؤلاء الذين أرادوا أن يلجوا ميدان الشريعة كانت دوافعهم دنيوية، فقد كانت دوافعهم كما هو واضح من أحاديثهم وسيرهم دينية، فهم يريدون خدمة العلم وتقديم ما يحملون من علم للناس، وهم لا يستطيعون تقديم شيء للناس إذا كان الناس لا يعتدون ببضاعتهم.

وقد دخل بناء على ذلك كثير من علماء اللغة وعلماء الكلام ميدان الشريعة، ووجدوا أن أوسع أبواب دخولهم هو علم الأصول، لأن علم الأصول يوضح كيف تفهم ألفاظ القرآن والحديث وعباراتهما، وعمومهما وخصوصهما، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، ودلالات الألفاظ، وإشارات النصوص، والناسخ والمنسوخ، إلى غير ذلك من القضايا التي ترتبط بفهم اللغة ارتباطا تاما.

وكذلك فإن علم الأصول هو الذي يبين فلسفة التشريع، وأهداف الشريعة وأغراضها وعللها ومبادئها، ومكان العقل البشري من الشريعة إجمالا ما يوجب الثواب والعقاب عن أفعال العباد.

ويبين الدليل والبرهان والحد والرسم والقياس، ويبين أساس تشريع الأحكام ومدخل حسن الأفعال وقبحها العقليين في ذلك، وغير ذلك من القضايا المتعددة التي ترتبط بعلم الكلام والمنطق والعقيدة.

لهذا فقد وجدنا كثيرا من علماء اللغة والكلام والمنطق قد ولجوا علم الأصول وألفوا فيه كتبا وأبرزوا فيه قدراتهم اللغوية والمنطقية والعقلية.

ومن هنا برزت قضايا الكلام واللغة بصورة واضحة في بعض المؤلفات مما دعا بعض كتاب الأصول المعاصرين إلى القول: إن بعض القضايا الكلامية وردت في كتب الأصول من غير حاجة إلى إيرادها غير رغبة علماء الكلام في إبرازها ليمارسوا قدراتهم الكلامية.

ومن غير علماء اللغة والكلام فقد كان هنالك علماء في ميادين أخرى دخلوا ميدان علوم الشريعة وكان مدخلهم هو علم أصول الفقه لأنهم وجدوه يتصل بعلومهم التي أتقنوها ووجدوه علما خصبا.

يتبع >>>

====================

[1] البقرة 30.

[2] جمال الدين عبد الرحمن الأسنوي (704 - 777 هـ).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير