أما فيما يختص بالمجموعة الأولى من الأسباب، وهي التي ترجع إلى التكوين البيئي للنشء فهي تتمثل في تأثير أساليب الثقافات الأجنبية ومصطلحاتها وعباراتها في التكوين الثقافي لأبناء المسلمين، حدث ذلك منذ أن هجمت تلك الثقافات مع موجة الاستعمار لبلاد المسلمين وطفقت تنشئ أجيالا هي أقرب إلى ثقافات الأجنبية منها إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة والعلوم الإسلامية في مصادرها الأولية، فأصبح بذلك الناشئون بعيدين عن المصطلحات العلمية العربية والإسلامية وعن الألفاظ والعبارات التي تزخر بها كتب العلوم الإسلامية، ومن بينها كتب الأصول.
كذلك فإن الأجيال الإسلامية في العصور الحديثة تأثرت إلى حد كبير بالحملة المغرضة التي واجهتها كتب التراث في كثير من البلدان الإسلامية، تلك الحملة التي وصمت هذه الكتب بالجمود والتحجر، فعزف شباب المسلمين عن جهل عن تناول تلك الكتب وعن الاجتهاد في إدراك مضامينها، يضاف إلى ذلك ضعف اللغة العربية في جميع البلاد العربية والإسلامية، وعلم الأصول يتطلب في مقدمة ما يتطلب إدراك اللغة العربية إدراكا تاما ومعرفة أسرارها، كما أوضحنا من قبل.
كل ذلك ساعد على خمول كثير من الشباب وإحجامهم عن اقتحام هذه العلوم وسبر أغوارها، وتركوا ذلك إلى قلة متخصصة في فروع هذه العلوم، فأصبح من العسير عليهم -إن هم أرادوا العودة إلى كتب التراث - أن يتبينوا أساليب تلك الكتب.
أما المجموعة الثانية من أسباب النفور من علم الأصول، والتي ترجع إلى كتب الأصول نفسها، فهي تتلخص في أن كتب الأصول القديمة غالبا ما تركز على المصطلحات اللغوية واللفظية والمنطقية، وعلى مناقشة القول ورد المناقشة الخ - كما أشرنا - مما يبعد بالطالب عن المعنى المقصود أو يجعل من الصعب الخروج بنتيجة واضحة بينة.
كذلك فإن كتب الأصول كثيرا ما تقلل من إيراد الأمثلة التطبيقية للقواعد التي تناقشها، فمثلا تورد أحيانا مثالا واحدا لقضية أو قاعدة يكون الكتاب قد ناقشها طويلا، وربما لا تورد في بعض الأوقات أي مثال عقب مناقشة طويلة لبعض القواعد، وبذلك يفقد الدارس الجانب التطبيقي للعلم ويصعب عليه الربط بين القواعد الأصولية التي يقرؤها وبين الفقه التفصيلي فيفقد الهدف الرئيسي من علم الأصول.
فلو أن كتب الأصول زخرت بالأمثلة لكل قاعدة وبالتطبيق على المسائل الفقهية باستفاضة لساعد ذلك على جعل هذه المادة أكثر تشويقا، ولو أن الأستاذ الذي يقوم بتدريس علم الأصول في الجامعات والمعاهد يقوم بتوسيع الجانب التطبيقي وعرضه ومناقشته مع الدارسين لساعد ذلك أيضا على إيضاح خصوبة هذا العلم ودسامته.
إن أمنيتنا هي أن تميل الكتابات المعاصرة في علم الأصول إلى استجلاء عمق هذه المادة وغزارتها وأن يكثّف العمل في هذا الطريق حتى يدرك طلاب العلوم والمعرفة حقيقة علم الأصول ويكون الإقبال عليه كبيرا كما يكون طوعا واختيارا، وبذلك يعطى هذا العلم حقه من الاهتمام، وكما هو معلوم فإنه لا سبيل إلى الاجتهاد إلا بإدراك تام لهذا العلم.
إقبال العلماء في الماضي بمختلف تخصصاتهم على علم أصول الفقه:
ظل علم أصول الفقه وكذلك علم الفقه محط اهتمام المسلمين في الماضي على مر العصور، وظلا في مقدمة العلوم التي يندفع الدارسون لتلقيها وتدريسها، ولأن مجموع العلمين هو الذي يسترشد به الفرد والمجتمع في التصرفات والمسار وبه تبين أحكام أفعال البشر في دنياهم.
وكان عالم الأصول والفقه مقدما على غيره من العلماء لخطورة وأهمية ما يحمله، وهو الذي يولّى أخطر مناصب الدولة وهو القضاء وهو الذي يهرع إليه الناس في الفتوى لحل مشكلاتهم الفقهية التي تتعلق بدنياهم وأخراهم فهو في الحقيقة الموجه للمجتمع المسلم. ومن هنا كان الحادبون على صلاح المجتمع المسلم يحرصون على دخول ميدان الفقه وأصوله حتى يتمكنوا من القيام بدور في توجيه، المجتمع، خاصة قد كان الذي لا يعرف الفقه وأصوله لا يعتبر من ذوي العلم مهما بلغ من المعرفة في كثير من العلوم الأخرى.
¥