بل إن سيد الحفاظ الإمام (يحيى بن سعيد القطان) البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل: كان لا يجتهد في استنباط الأحكام، بل يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة، كما في ترجمة (وكيع بن الجراح) في "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307:1). وفي "تهذيب التهذيب" (450:10) في ترجمة (أبي حنيفة النعمان بن ثابت): "قال أحمد بن سعيد القاضي: سمعتُ يحيى بن معين - تلميذ يحيى القِطان - يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول: لا نَكذِبُ اللَّهَ، ما سمعنا رأياً أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله". انتهى.
وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، محدثُ العراق، لا يجتهدُ أيضاً، ويفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي، ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307:1)، و"تهذيب التهذيب" (126:11 - 127): "قال حسين بن حبان، عن ابن معين - تلميذ وكيع -: "ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة".
وروى الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" (152:2): "عن الربيع المُرادي قال: سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مِقلاص - عبد العزيز بن عمران، المتوفى سنة 234، الإمام الفقيه -: تريد تحفظ الحديث وتكونُ فقيهاً؟ هيهات! ما أبعَدك من ذلك - ولم يكن هذا لبلادة فيه حاشاه -.
قلت - القائل البيهقي -: وإنما أراد به حفظه على رَسم أهل الحديث، من حفظ الأبواب والمذاكرة بها، وذلك علم كثير إذا اشتغل به، فربما لم يتفرغ إلى الفقه، فأما الأحاديث التي يحتاج إليها في الفقه، فلا بد من حفظها معه، فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه، وبالله التوفيق.
وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - هو الحاكم النيسابوري - قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن يقول: سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - هو إسحاق بن راهويه - يقول: ذاكرت الشافعي، فقال: لو كنتُ أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا.
وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويَسرد أبوابه سرداً وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظُ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتَبَه عليه، وذلك لشدة اتقائهِ لله عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه".انتهى.
ـ[يحيى القطان]ــــــــ[28 - 05 - 04, 07:34 م]ـ
الأخوة الأفاضل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهل الحديث لفظٌ عامٌّ يشمل أصنافًا عديدة؛ منها:
ـ نُقَّاد الحديث.
ـ الرواة.
ـ الطلبة.
ـ أتباع المحدثين.
ـ المصنِّفِين فيه، .....
وكل قسم من هذه الأقسام وغيرها له مميزاته الخاصة بها.
ثم إنَّ هذا التقسيم بالنظر إلى المحدثين الأوائل، بخلاف المتأخرين فلهم شأنٌ أخر.
ـ فالنُّقَاد من المحدثين: هم من أَعْلَى الناس فِقْهًا وفَهْمًا، ولهم مذهب معروف بمذهب أهل الحديث، ومنهم مالك والشافعي والليث والثوري وابن معين وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الدين الكبار.
بل أشهر الناس، وأوسعهم عِلْمًا وأَتْبَاعًا: مالك والشافعي وأحمد، وثلاثتهم من نُقَّاد المحدثين العظام، وكبار الفقهاء في آنٍ واحد.
وهذا معلوم مشهور.
وقد يَتَوَرَّع بعض هؤلاء الأفاضل فيأخذ برأي غيره في بعض المسائل التي ليس فيها نص صريح، ولم ترد صراحةً فيما يحفظه، فيحتاج حينئذٍ إلى الاجتهاد، فيرى أَن الأخذ برأي غيره أَسْلَم لنفسِه.
ومن هذا الباب ما وردَ عن يحيى بن سعيد القطان وغيره مما سبق لكم ذِكْرُه.
ولا يُفْهَم من ذلك عدم عناية هؤلاء بالفقه أو معرفتهم به.
خاصةً وأنت خبير بارك الله فيك أَن الحكم على الحديث فرعٌ على معرفة ما به من عللٍ إسنادية ومَتْنِيّة، وعِلل المتن لا تظهر إلا بنظرٍ وبَصَرٍ، فلابد من فقهٍ.
ولذا كان النقاد يجمعون بين الفقه والحديث.
وهذا مما لا يُكابَر فيه.
ـ أما رواة الحديث: فهؤلاء غاية أمرهم النقل، ويكفي فيهم توفر المعرفة الضرورية للنقل، مع الضبط والأمانة، وغير ذلك من شروط الرواية.
ولذا لم يَرَ النقَّاد لهؤلاء الرواة: جواز الرواية بالمعنى، إلا لمن مَلَك فقهًا يدري به معنى ما يذكره، حتى لا يحيل المعنى عن المراد الموضوع له.
¥