1 - أن الله تعالى قال: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث}، فالتعزيز بالكثرة يورث اليقين، ويقطع الشك، ولذا أرسل الله تعالى إليهم هذه الكثرة، ليثبّت الحجة عليهم.
2 - لم يطمئن عمر رضي الله عنه إلى خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، فدل على أن الكثرة تورث اليقين.
3 - اصطلح العلماء على قبول المتواتر، وهو ما يرويه جماعة، يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، فكان من أسباب قبوله كون الذي يرويه "جماعة" وهذه صفة كثرة.
4 - ذكر العلماء أن الشاذ هو: ما يرويه الثقة يخالف به الثقات. ففي اصطلاح المحدثين تقديم رواية الجمهرة على القلة، لحصول اليقين بها.
5 - من نهج العلماء، منذ القديم: سوق أقوال العلماء، والاستدلال بكثرتهم، على صواب المسألة، وهذا جلي في كتب: السنة، والتوحيد، والإيمان، وأصول الاعتقاد، والعقيدة .. إلخ، ويجعلون اجتماع العلماء وكثرتهم، عبر القرون الثلاثة الأولى خصوصا، دليلا على ابتداع المخالف، وهذا ظاهر في مسائل الاعتقاد، كالإيمان، والقدر، والأسماء والصفات.
6 - أن الطعن في حجية قول الجمهور: طعن في حجية الإجماع نفسه. وذلك: أن حجية الإجماع لم تثبت إلا بقول الجمهور:
- فإجماع الصحابة خالف في حجيته المعتزلة، لكن جمهور المسلمين احتجوا به، فصار حجة.
- وإجماع التابعين خالف في حجيته الظاهرية، لكن جمهور المسلمين احتجوا به، فصار حجة.
وهكذا فإن الطعن في حجية قول الجمهور، بالعموم، يفضي إلى إبطال حجية الإجماع.
فهذه الدلائل تبين منزلة قول الجمهور من الدين، وأنه ليس من السهولة الاستخفاف به، أو تجاوزه، أو الإعراض عنه لقلة، وهذا كله فيما لو تحقق في الجمهور الأوصاف التالية:
1 - الإمامة في الدين، فيكون أفراده أئمة يشار لهم بالعلم، والإيمان، والاتباع.
2 - أن يكون قولهم مبنيا على نص ثابت.
والشرط الثاني تحصيل حاصل؛ إذ لا يتصور أن يُجمع جمهرة من أهل العلم والإيمان، المتبعين غير المبتدعين: على الحكم في مسألة، دون أن يكون لهم مستند ثابت نصا.
* * *
- استثناء من العموم:
لو فرضنا جمهورا هم أقل في العلم والإيمان، إزاء قلة هي أكثر علما وإيمانا، ففي هذه الحال يقدم قول القلة، وهذا في مثل حال الخلفاء الراشدين، المنصوص عليهم بالاتباع: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. فهؤلاء ليس مثلهم أحد في الأمة، خصوصا الشيخين، وفي هذا جواب على من استدل بهم، كونهم أصابوا الحق في مسائل، وهم أفراد، كقصة أبي بكر مع المرتدين، وعمر مع أسارى بدر.
ويقال في هذا أيضا: إن الردة كانت نازلة، فاجتهد أبو بكر، واعترض عمر، وتوقف آخرون، فلما ظهر لهم رجحان رأي أبي بكر ساروا معه، وليست هذه كالمسائل التي استقرت أحكامها وكلام العلماء فيها، فالنوازل يكون فيها الخلاف ابتداء، حتى تتحرر في الأذهان، وتنحل الشبهات، فإذا اتخذ أهل العلم مواقفهم، بعد الدراسة، فعندها يبتدء النظر في جمهورهم، والاحتجاج بهم.
ومثله رأي عمر في أسارى بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن على رأي عمر، حتى نزل الوحي، فحسم الأمر، فاستقر الحكم.
فموضع الاحتجاج والحجية يكون بعد استقرار الأقوال وثبوتها، لا حين وقوع النازلة، وتردد النظر والبحث فيها.
* * *
- النتيجة:
إذا تقرر ما سبق، فإن قول الجمهور حجة في الأحوال التالية:
- إذا كان في أقوال الصحابة؛ للتنصيص على فضلهم في الدين، والأمر باتباعهم.
- إذا كان في أقوال التابعين؛ للتنصيص على فضلهم، كونهم من أهل القرون المفضلة.
- إذا كان في أقوال تابعي التابعين؛ للتنصيص على فضلهم، كونهم من أهل القرون الفاضلة.
- إذا كان في أقوال من تبعهم؛ يلحقون في الحكم بأهل القرون المفضلة، كونهم اقتدوا بنهجهم.
ولا يكون حجة في الأحوال التالية:
- إذا كان المخالفون لهم أعظم منهم إمامة وعلما، كأبي بكر وعمر في مقابل غيرهم.
- إذا كان الجمهور من سوى السلف، من أهل الفرق الإسلامية، قديما أو حديثا. وهذا عموما، غير أن هذا القسم فيه تفصيل:
- فإن كان هذا الجمهور موافقا للسلف، فينضمون إليهم، ويعدون معهم في المسألة التي اتفقوا فيها، وهذا يظهر في مسائل الفقه خصوصا؛ فالممنوع الاستشهاد بقول صاحب بدعة في بدعته، وما عدا ذلك فلا مانع.
- وإن كان مخالفا للسلف، فلا حجة في قولهم، ولو بلغوا أضعاف السلف؛ لأن شرط الاتباع ساقط، فالكثرة حينئذ لا تنفع، وهذا يظهر في مسائل الاعتقاد خصوصا.
* * *
- تعقيب.
وكون قول الجمهور حجة فإنه يعني: وجوب اتباعهم، وعدم مخالفتهم.
فإذا قيل فما الفرق حينئذ بينه وبين الإجماع؟. فالجواب:
- أن مخالفة الإجماع بدعة وضلالة، وتكون مشاققة للرسول، واتباع لسبيل غير المؤمنين، إذا كانت عن هوى، كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
- وأن مخالفة قول الجمهور:
- قد تكون بدعة، كمخالفة الإجماع، وذلك إذا كان المسألة فيها إجماع الصحابة، ثم جاء من بعدهم فاختلفوا، فجمهورهم مع الصحابة، وقلتهم مخالفون، فحينئذ الحجة في قول الجمهور، وقد تجلى هذا في مخالفة بعض العلماء من السلف لأقوال عموم السلف الموافقة للصحابة في أصول الدين، كالإيمان والقدر، وكانت عن اجتهاد لم يصيبوا فيه، لا عن هوى، فإن كان عن هوى، فلها حكم مخالفة الإجماع عن هوى.
- وقد تكون خطأ، وقد تجلت في فروع المسائل العقدية والفقهية، فإن كانت عن هوى، فإثم ومعصية، وإن كانت عن اجتهاد، فلهم أجر الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، ولا يوافقون، ولا يعاملون كمبتدع.
ومن ذلك يتضح أن مخالفة الجمهور ليس من الخلاف السائغ، إنما السائغ من الخلاف ما كان فيه كفتي العلماء متساوية، أو قريبة من التساوي، دون غلبة ظاهرة، ليس في العدد فحسب، بل في الإمامة في الدين.
* * * undefined
¥